randa
randa
أعمدة

عطر: بيروت يا شجرة الصنوبر

09 أغسطس 2017
09 أغسطس 2017

رندة صادق -

[email protected] -

“نحن نحب اذا نحن موجودون”، الحب يعني وجودنا كياننا وطريقتنا التي نتفاعل من خلالها مع العالم الخرجي وحركة العوالم الداخلية لمشاعرنا، الحب فطرتنا التي نحتاجها، لذا كان كل من آدم وحواء هما منبته وبداياته وأول انطلاقته، سارا في الأرض يزرعان الحب لينبت لنا بشرية الأصل فيها هذه المشاعر التي تبحث عن الإكتمال، ومع هذا لا يمكن حصر الحب بين الرجل والمرأة، فقدرتنا على الحب تتخطى المعقول لتصل الى اللامعقول، نحن نحب اشياءنا وأماكننا وعطورنا والالوان والفصول، نتعامل مع كل شيء من حولنا بحب أو برفض كي لا نستعمل كلمة “كره “، كائنات تعبر عن كل شيء بمشاعرها وردات فعلها الداخلية مع محيطها .

ولكن ان تعشق مدينة، ان تحب ذاكرتك عنها، هذا حب من نوع خاص، لأن مهما تقاسمته مع غيرك تبقى خصوصية هذا العشق ترتبط بك وحدك، وهذا بالتحديد ما اقصده بعشقي لست العواصم “بيروت” التي أجمع المؤرخون على تفسير معنى كلمة بيروت بأنها شجرة الصنوبر، ولعل هذا ليس بصدفة بل لأنها تشبه شجرة الصنوبر الشامخة الصلبة العطرة.

كلما شددت العزم لزيارتها مارس الصباح نسائمه ووعوده بنهار استثنائي، فبيروت لمن لا يعرفها عاصمة من عواصم الشرق تشبه معزوفة كونية اجتمعت فيها نغمات الناي الحزين وصوت الساكسيفون، من هنا قد لا تدرك حواسك هل تبكي أم ترقص، هل تبتسم أم تسرقك الأحلام، ربما لأنها عبق التاريخ وحكاياته، ربما لأنها قصص عشق لآلهة خارج الحقيقة وابطال من شذى الأساطير، ويعود تاريخ هذه المدينة لأكثر5000 آلاف عام، والدليل على ذلك انه عام 1946 إكتشف هنري فليش أقدم المصانع التي أنشئت ما قبل التاريخ في رأس بيروت.

لطالما كانت مغرية للغزاة عبر التاريخ فقطعوا المحيطات والبحور ليأتوا اليها، وهذا ان دل فهو يدل على أهميتها التي ما زالت مستمرة الى اليوم، فالعالم الغربي حين تذكر بيروت يعرف أنها باريس الشرق عاصمة الفن والثقافة، ومنبر حر لمن لا منبر له، لذا هي تحتضن الأدب والفن والمسرح لكل الاخوة العرب، فكانت مقصدهم وأول اختياراتهم .

بيروت التي لم تهزمها الزلازل التي قلبتها رأسا على عقب لأكثر من ثمان مرات، لم ولن تهزمها الحروب ولا التآمر عليها ولا ان يحولها العالم المتصارع الجشع الى صندوق بريد يرسل من خلاله رسائله شرقا وغربا. بيروت مدينة صامدة مقاومة رغم الاعتداءات المتكررة للكيان الصهويني عليها وتعمده ضرب البنى التحتية لشل كل لبنان، كانت وستبقى تنفض غبار قنابله وتنهض انثى جميلة ترقص في ليلة عرسها .

لعل في هذا الشعر الذي قاله نزار ملخص لمدينة العشق الأزلي فهو يقول :” آه يا عُشَّاق بيروت القدامى هل وجدتم بعد بيروت البديلا”. نعم لا بديل عن هذا العشق، لا شيء يضاهيها جنونا أو عقلا، مدينة التناقض اللذيذ، فهي ليست في قلب العالم بل العالم في قلبها تنوعها الحضاري والنوعي لا تشبهه مدينة، رغم تراجعها السياحي بسبب الظروف السياسية والأمنية التي تحيط بها، ولكن صخرتها في كل صباح تراقص الضوء وتحتضن أمواج البحر، ويعد كورنيشها كل عشاق الأرض: انه هنا بيروت، عاصمة الحب والسحر والجمال، هنا لا تموت الذاكرة بل ينبت الأقحوان، هنا لا تتهدم الأحلام بل تبنى الآمال .

رغم كل الصعوبات لا يمكن ان تتوقف هذه المدينة عن نشر الفرح وثقافة الحياة في مشاعرعشاقها، فلا أساور هنا لا قيود، هو الحب البكر لمدينة هي عروس المدن دون منازع.