الملف السياسي

مناورة إسرائيلية خاسرة .. ولكنها مقلقة !!

31 يوليو 2017
31 يوليو 2017

د. عبد الحميد الموافي -

إن الخسارة الإسرائيلية الكبيرة ، لم تتوقف عند التراجع التام عن الإجراءات الإسرائيلية ، ولكنها - الخسارة - امتدت إلى إعلان وتأكيد الاتحاد الأوروبي على أن المسجد الأقصى جزء من القدس الشرقية التي احتلتها إسرائيل في عدوان يونيو عام 1967

بالرغم من أن قوات الاحتلال الإسرائيلية تسيطر على القدس الشرقية، وبالطبع المسجد الأقصى، منذ احتلالها للضفة الغربية المحتلة في العاشر من يونيو عام 1967، وبالرغم أيضا من إقرارها بالوضع الخاص للمسجد الأقصى، وبالمسؤولية الفلسطينية والعربية عن إدارة شؤونه، ومع إدراكها العميق، لما يمكن أن يترتب على أي خطوة تصعيدية من جانبها ضد المسجد الأقصى، لأهميته الدينية والرمزية الإسلامية، للفلسطينيين والعرب والمسلمين على امتداد العالم، هذا فضلا عن الاصطدام المباشر بالمنظمات والهيئات الدولية، بحكم انتهاكها لقرارات تلك المنظمات، ومنها الأمم المتحدة ومنظمة اليونيسكو وغيرها، إلا أنه من اللافت للانتباه أن يختار رئيس الحكومة الإسرائيلية هذا التوقيت، منتصف شهر يوليو الماضي، ليقوم بمناورة محسوبة على الأرجح، من قبيل التقدم والتراجع، لجس النبض، أو لتشتيت الانتباه عن حدث أو تطور ما، أو لمحاولة وضع عناصر جديدة، على الأقل في ذهن المفاوض الفلسطيني لزيادة مخاوفه، أو للحصول على مكاسب أكبر. وسواء كانت دوافع رئيس حكومة المستوطنين الإسرائيليين هي تلك المشار إليها أو بعضها، أو أخرى لا تزال مستترة، فإن المؤكد هو أن المناورة المحسوبة على الأرجح، كانت تمرينا خاسرا، ليس فقط لأن نتانياهو اضطر إلى التراجع عن الإجراءات التي قامت بها القوات الإسرائيلية، بموافقته ومباركته بالطبع، ولكن أيضا لأن الموقف الإسرائيلي تضرر بالفعل، وخرج خاسرا من هذه المواجهة ، برغم أنها كانت مواجهة غير متكافئة، فالقوات الإسرائيلية المدججة بالسلاح والآليات من ناحية، وفي مواجهتها المصلون الفلسطينيون، في رفض شعبي سلمي، ولكنه قوي وصامد ومتواصل، وتسانده مواقف الحكومة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية المختلفة، والحكومات والشعوب العربية والإسلامية، وكذلك مواقف الشعوب والدول الرافضة للانتهاكات الإجرامية لإسرائيل في القدس الشرقية والأراضي الفلسطينية المحتلة، ومنها بعض القوى الواعية، التي شاءت أن يكون الموقف مناسبة أخرى للتأكيد على مبدأ، كان يتم التعبير عنه على استحياء، وأحيانا بصوت خفيض، لأسباب واعتبارات كثيرة، وقد تم تجأوز ذلك الآن، ليتم التعبير عنه بصوت عال وواضح ومحدد أيضا، وهو ما يزعج إسرائيل بالتأكيد.

وإذا كنا في غير حاجة إلى إصدار الأحكام، أو إلى تقييم مواقف هذا الطرف أو ذاك، أو الغمز من قناة أو أخرى، ليس فقط لعدم أهمية ذلك، ولإدراك أن الأطراف المختلفة تحكمها مواقف واعتبارات عديدة، وأن حدود المواقف محسوبة أيضا بدرجة غير قليلة، إلا في بعض حالات المزايدة والهروب إلى الأمام ، والرغبة في إحراج طرف أو أطراف محددة ، من جانب البعض، فلعله من الأهمية بمكان الإشارة إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

*أولا : إن القدس الشرقية المحتلة، بأحيائها المختلفة، وفي القلب منها المسجد الأقصى وقبة الصخرة، تكتسب أهمية ورمزية إسلامية عالية لدى الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين العرب وغير العرب أيضا، بحكم المقدسات المسيحية فيها. وإذا أضيف إلى ذلك، ما يمثله حائط البراق، أو حائط المبكى بالنسبة لليهود ، وكذلك الحديث عن بقايا الهيكل، فإن القدس الشرقية تصبح ملتقى أو موضع اهتمام ورمزية للديانات السماوية الثلاث، بشكل أو آخر، بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر الافتئات أو التجاوز من جانب السلطات الإسرائيلية على أي من المقدسات الإسلامية أو المسيحية في القدس الشرقية المحتلة ، والإدراك الدولي القديم والعميق، لهذه النقطة ، هو ما كان يقف في الواقع، وراء إعطاء القدس وضعا خاصا في قرار تقسيم فلسطين في أكتوبر عام 1947، حينما جعل إقليم القدس تحت إدارة مشتركة فلسطينية يهودية، الأغلبية فيها للفلسطينيين، لإدارة شؤون القدس والإبقاء على حق وصول أبناء الديانات الثلاث إلى مرافقهم الدينية ومقدساتهم وممارسة شعائرهم الدينية، بدون أية عوائق. غير أن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، منذ عدوان يونيو عام 1967، وحتى منذ عام 1948 لم تلتزم ولم تأبه بذلك، وحاولت بعد عدوان يونيو تهويد القدس الشرقية بكل السبل الممكنة، وإعلان ضمها، بل وإعلان القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، ضاربة بكل القرارات الدولية عرض الحائط، ومكرسة اغتصابا للأرض والمقدسات لا يقبله أحد، ومحاولة فرض أمر واقع، لعل الفلسطينيين والعرب يقبلون به في النهاية.

من هذا المنطلق تحاول إسرائيل وحكومة المستوطنين المتطرفة فيها برئاسة نتانياهو، القيام بأوسع عمليات استيطان وتغيير وتهويد للقدس الشرقية المحتلة، وتحاول عزلها أيضا بشتى الوسائل عن محيطها، مع توسيع إقليم القدس الكبرى، ليضم مناطق أخرى، مثل أم الفحم، تحسبا لتسوية سلمية في إطار حل الدولتين. وفي هذا الإطار أيضا يأتي التصعيد الإسرائيلي، والمناورة الإسرائيلية المحسوبة، ضد المسجد الأقصى. فهل هي مصادفة أن تقوم إسرائيل بما قامت به في منتصف يوليو الماضي، في ظل كل ما تشهده المنطقة من تطورات، منها على سبيل المثال، تقهقر داعش في العراق وسوريا، والتطورات الأخرى في المنطقة، وكذلك الموقف الأخير لليونيسكو من الإجراءات الإسرائيلية في القدس الشرقية، ومن المسجد الأقصى تحديدا. فضلا عن ازدياد وتيرة الحديث عن تنشيط عملية السلام والمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية مرة أخرى في إطار حل الدولتين، الذي تريد حكومة نتانياهو دفنه تماما. وبالقطع ليس هناك ما يمكن أن يجذب انتباه الجميع ، مثل محاولة المساس بالمسجد الأقصى المبارك بأي شكل.

من جانب آخر فإنه بالرغم من التحرق والشوق الإسرائيلي لكل ما يمس المسجد الأقصى المبارك، بما في ذلك الحفر تحته، بحثا عن الهيكل، وإقامة مرافق دينية يهودية على مشارفه، إلا أن حكومة نتانياهو تدرك خطورة التجاوز العملي على المسجد الأقصى المبارك، وعلى النحو الذي حدث في الحرم الإبراهيمي في الخليل قبل سنوات، عندما أقدمت على التقسيم المكاني والزماني لإقامة الشعائر فيه بين المسلمين واليهود. ولذا لجأت حكومة نتانياهو إلى مناورات التقدم والتراجع المحسوب، لجعل ممارسات مرفوضة الآن، متكررة ومفروضة عمليا بشكل أو بآخر بعد فترة من الزمن، ومن ذلك مثلا زيارات بعض المسؤولين الإسرائيليين للمسجد الأقصى، واقتحامات المستوطنين لباحاته، وإقامة شعائر دينية يهودية لبعض المتطرفين اليهود في بعض أطرافه تحت حراسة الشرطة والقوات الإسرائيلية، والتحرش وقمع المصلين، ومنع شرائح شبابية من الصلاة فيه أحيانا بحجة الأمن، وصولا إلى إغلاقه، ومحاولة وضع بوابات إلكترونية، أو كاميرات تصوير للسيطرة عليه بشكل ما، ومتابعة كل ما يجري فيه وحوله. وهو ما حدث في الأسبوعين الماضيين بعد حادثة مقتل جنديين إسرائيليين اثنين في باحات الأقصى، والتي اتخذتها حكومة نتانياهو ذريعة لخطواتها ومناورتها المحسوبة. لأنها تعلم جيدا أن إجراءاتها ضد الأقصى لن تمر بسهولة، وانتفاضة الأقصى الأولى لا يمكن أن تنساها إسرائيل.

*ثانيا : لعله من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن مناورة إسرائيل المحسوبة، لا تعني أن إسرائيل لا تريد ما قامت به بالفعل، بالتأكيد هي تريده وتريد ما هو أكثر، ولكنها تتحرك نحوه بشكل متدرج، نظرا لخطورته، ولإثارته للعواطف الدينية لدى الفلسطينيين والمسلمين بوجه عام، ولذا تتبع تكتيك التقدم والتراجع في البداية، لجعل الأمر متكررا، ولذا فإن الخطوات الإسرائيلية سوف تتكرر على الأرجح، بأشكال وبإجراءات تضع في اعتبارها الاستفادة مما حدث خلال الأسبوعين الماضيين.على أية حال فإن الأداء الفلسطيني كان أداء فاعلا ومؤثرا، خاصة وأنه ركز على المقاومة الشعبية السلمية، وكانت تدفقات المصلين حول المسجد الأقصى، وهم عزل إلا من إرادة الصمود ورفض إجراءات إسرائيل ، كانت السلاح الأكثر فاعلية، فمن المعروف أن العسكرة أو أعمال العنف هي ما تتمناه إسرائيل، لتفوقها في الرد على ذلك، والأمثلة عديدة في هذا المجال. ثم جاءت إجراءت حكومة عباس بوقف الاتصالات والتنسيق الأمني مع إسرائيل، وكذلك التنسيق بين الفصائل الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة والأراضي المحتلة عام 1948، لتشكل إطارا داعما، عززته المواقف العربية، الفردية والجماعية، ومواقف الهيئات الدولية ، لتجد إسرائيل نفسها في مواجهة الجميع تقريبا، ولذا لم يكن هناك مفر من التراجع، بل والاستجابة للموقف الفلسطيني الشعبي والرسمي بإزالة كل الإجراءات الإسرائيلية، وهو ما تم بالفعل، في انتصار واضح وبالغ الدلالة ضد مخططات إسرائيل ضد المسجد الأقصى المبارك، وفي درس لابد من التوقف أمامه طويلا لدراسة جوانبه المختلفة والاستفادة منها بعد ذلك، ولاستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية المفقودة منذ عشر سنوات.

ولعل ما حدث يكون مدخلا لاستجماع القوى الفلسطينية مرة أخرى لصالح القضية الفلسطينية، وبعيدا عن الارتهان لأي طرف، يعتمر الكوفية الفلسطينية لتحقيق مآربه المباشرة أو غير المباشرة.

*ثالثا : إذا كان الشعب الفلسطيني قد حقق انتصارا بإجبار إسرائيل على التراجع عن إجراءاتها ضد المسجد الأقصى، إلا أن ذلك ينبغي النظر إليه في إطاره وظروفه والاستفادة العملية منه. وإذا كانت إسرائيل ستعمل وستحاول اختزال القدس الشرقية في المسجد الأقصى، وذلك بتكثيف الاستيطان فيها، وهو ما ينبغي التصدي القوي والمتواصل له، داخل المؤسسات الدولية و خارجها، فإن استهداف إسرائيل للمسجد الأقصى لن ينتهي لأسباب عديدة، وهو ما يفرض ضرورة استعادة الوحدة بين الفصائل الفلسطينية، وخاصة بين فتح وحماس، لتفويت الفرصة على إسرائيل للتلاعب بحاضر القضية الفلسطينية ومستقبلها أيضا بوسائل مختلفة. غير أن الخسارة الإسرائيلية الكبيرة، لم تتوقف عند التراجع التام عن الإجراءات الإسرائيلية، ولكنها - الخسارة - امتدت إلى إعلان وتأكيد الاتحاد الأوروبي على أن المسجد الأقصى جزء من القدس الشرقية التي احتلتها إسرائيل في عدوان يونيو عام 1967، وأن الاتحاد الأوروبي لن يقبل بتغيير الأوضاع فيها لأن إسرائيل لا تزال قوة احتلال. ويعد ذلك أقوى موقف للاتحاد الأوروبي حيال القدس الشرقية والأقصى، وهو أمر تزداد أهميته في ضوء محاولات إنعاش عملية السلام والمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، والعمل على التوصل إلى حل شامل للقضية في الفترة القادمة. صحيح أن إسرائيل لن يعجبها ذلك وهاجمت وستهاجم الاتحاد الأوروبي بشدة، ولكن الصحيح أن النظر إليها كقوة احتلال قد تعززت في أحداث الأقصى، وهو ما يجب أن يعمل عليه الفلسطينيون والعرب، لتفعيل القرارات الدولية المتعلقة بذلك، وحتى يمكن الاستفادة من حل الدولتين وبما يجعل من القدس الشرقية عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 67 في أية تسوية شاملة وعادلة قادمة أو محتملة.