الملف السياسي

ركائز أساسية ..نتمسك بها ونحافظ عليها !!

24 يوليو 2017
24 يوليو 2017

د. عبد الحميد الموافي -

في الوقت الذي اتسمت فيه التجربة التنموية العمانية بالارتباط الشديد بطبيعة المجتمع والشعب العماني، وخبرته التاريخية، فإنها جرت وتجري بوعي عميق للمتغيرات على الساحة الوطنية والإقليمية والدولية ، والتي تفاعلت وتقاطعت بشدة أحيانا على مياه وضفاف مضيق هرمز. ومع ذلك كانت الأهداف محددة بوضوح شديد، مرحليا واستراتيجيا.

اذا كان من المؤكد انه لا يمكن أن يختلف احد، أو ينكر، إلا جاحد أو مكابر، حجم ومدى وطبيعة ما تحقق على امتداد هذه الأرض الطيبة، في ظل مسيرة النهضة العمانية الحديثة، التي قادها حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه - بعزم وإصرار، وبقناعة وإيمان عميق بالقدرة على الانتقال بالشعب والمجتمع والدولة العمانية مما كانت عليه قبل 47 عاما، الى حيث يتمنى ويتطلع ابناؤها، وبثقة أيضا في أن المواطن العماني قادر على القيام بأعباء ذلك، وعلى تحمل ما يتطلبه ذلك من جهد وعمل وتضحيات كبيرة، فإن التطورات والظروف والنتائج على الأرض، على امتداد البلاد، قد أثبتت صحة وبعد نظر رؤية جلالته ، ليس فقط بالنسبة للمواطن والمجتمع والدولة العمانية، ولكن أيضا بالنسبة لسياسات وأسس وركائز التنمية، التي وضعها جلالته، والتي نهضت عليها وبها دولة فتية ، تشكل إضافة حقيقية وإيجابية لطاقة العمل العربي. فضلا عن أنها كانت ولا تزال طرفا يتطلع إليه الأشفاء والأصدقاء في المنطقة وخارجها، لتقوم بكل ما يمكنها من جهد طيب للتقريب بين الأشقاء والأصدقاء ، ولحل الخلافات وتقريب وجهات النظر ، وتجاوز كثير مما يعكر صفو العلاقات، ويعرقل التعاون ، ويسيء الى علاقات راسخة بين دول وشعوب الخليج والمنطقة العربية. وهي في كل الأحيان، لم تطلب ذلك، ولم تنتظر جزاء ولا شكورا، ولكنها لم تتقاعس أبدا عما تراه ضرورة لتوفير مناخ ضروري لصالح السلام والاستقرار لشعوب ودول هذه المنطقة العربية، دوما وتحت كل الظروف. ومع أن هناك من يقارن أو يمد بصره في هذا الاتجاه أو ذاك، ليعزف على أفكار ونقاط محددة، واحيانا بخبث ما، أوعلى الأقل بنوايا غير بريئة، أوبعدم معرفة كافية ، فإن التنمية والبناء في عمان يظلان تجربة فريدة ومتميزة، في ظل الظروف والإمكانيات، والتقاطعات ، والخصوصية العمانية، التي لا تقبل المقارنة مع غيرها، لأسباب كثيرة، ولكنها تحتاج إلى الفهم الصحيح، والوعي بمرتكزاتها، التي أثبتت التطورات الراهنة أهمية وضرورة التمسك بها والحفاظ عليها، بل العض عليها بالنواجز، وفي مقدمة هذه الركائز الوحدة الوطنية، والتماسك والتعاضد بين أبناء الوطن ، والحفاظ على ما تحقق من مكاسب لعمان الدولة والشعب والمجتمع، لأن ذلك كان سبيل النهوض امس ، وهو اليوم ضمان أساسي للحفاظ على ما تحقق، وللنجاة من مخاطر مخيفة، يتم دفع المنطقة إليها، بوسائل عديدة، ظاهرة ومستترة. والحمد لله أننا نحتفل الآن بالذكرى السابعة والأربعين للمسيرة التي يقودها جلالته ـ اعزه الله ـ والتي تشق طريقها بفكره المستنير وبقيادته الواعية، والقادرة، بحق، على أن تكون الضمان والملاذ والسند، لأبناء الوطن، وللباحثين بحق عن السلام والاستقرار والأمان لشعوب هذه المنطقة الحيوية ومن حولها أيضا.

وعند كتابة هذا الموضوع، طرأ في ذهني أن أعود الى كتابي (عمان بناء الدولة الحديثة)، الصادر قبل خمسة عشر عاما بالقاهرة، وهو ثاني كتبي، وليس آخرها، وأولها كان حول مصر والسياسة العربية، قبل نحو خمسة وثلاثين عاما، وقد توقفت في الواقع أمام مقدمة هذا الكتاب (عمان بناء الدولة الحديثة)، واستأذن القارئ الكريم أن انقل فقرات مما جاء فيها، في هذا الوقت المبكر، لأهميته ودلالته ولعلاقته المباشرة أيضا بهذا الموضوع، برغم مرور هذه السنوات.

« لابد من الاعتراف بأنني كنت محظوظا لقربي ـ بحكم العمل ـ من واحدة من اكثر عمليات البناء الوطني العربية أهمية وتميزا، وهى التجربة التنموية التي جرت ولا تزال على الضفة الجنوبية لمضيق هرمز على مدخل الخليج العربي. ولعل ذلك يعود، في جانب منه، الى أن التجربة التنموية في سلطنة عمان لم تكن بالتأكيد مجرد تجربة تقليدية، تتمثل في عملية الانتقال بالمجتمع من حالة تخلف اجتماعي واقتصادي كبيرة، الى حالة من التطور والتحديث، وتشييد البنية الأساسية وإعادة التخطيط باستخدام عائدات النفط لتمويل ذلك، وهي الصيغة النمطية للتنمية في عدد من الدول العربية، ولكنها كانت في الواقع عملية سياسية واستراتيجية بمعناها الواسع، تفاعلت فيها ومن حولها عوامل عديدة محلية وإقليمية ودولية، وعلى نحو زاد من أهميتها وآثارها الوطنية والإقليمية.

يضاف الى ذلك انه في الوقت الذي اتسمت فيه التجربة التنموية العمانية بالارتباط الشديد بطبيعة المجتمع والشعب العماني، وخبرته التاريخية، فإنها جرت وتجري بوعي عميق للمتغيرات على الساحة الوطنية والإقليمية والدولية، والتي تفاعلت وتقاطعت بشدة أحيانا على مياه وضفاف مضيق هرمز. ومع ذلك كانت الأهداف محددة بوضوح شديد، مرحليا واستراتيجيا، وكان هناك قرار بالسير نحو تحقيقها دون الانجرار ـ قدر الإمكان ـ في دروب فرعية مهما كانت الأسباب. في هذا الإطار تمت عملية التنمية العمانية، وتتم بشكل تدريجي على مبدأ « بناء البيت طوبة طوبة « كما يقال في الأدبيات الشعبية، دون انغلاق، ولكن أيضا دون انفتاح أوسع مما تتطلبه المصالح والقناعة العمانية بالتفاعل الحذر مع محيطها ، وقد زاد من صعوبة ذلك أحيانا ما تعرضت له بعض المواقف العمانية، من إساءة فهم أو إساءة تفسير حيال هذا التطور العربي أو ذاك، وهو ما استمر أحيانا بضع سنوات قبل أن يتيقن الآخرون من مصداقيته . . ومن بين جوانب عديدة هامة، فإن من اكثرها أهمية لحاضر ومستقبل عمان، بل وبالنسبة لمنطقة الخليج العربي ككل، هو ما يتصل بتحقيق الوحدة الوطنية لعمان، والتي مثلت وتمثل حجر الأساس لكل التنمية التي تحققت في السلطنة ..وليس من المبالغة في شيء القول بأن القيام بتشييد دولة عصرية قادرة على التطور والتفاعل مع محيطها، والأكثر من ذلك أهمية ، الانتقال بها من الحكم المطلق الى الحكم الدستوري المرتكز على قواعد قانونية محددة ومقننة في إطار سياسي وقانوني متكامل ومعلن في وثيقة دستورية تقوم على العدل والمساواة وضمان حقوق المواطنة لجميع العمانيين، ما كان يمكن أن تتحقق إلا اذا ارتكزت على وحدة وطنية قوية ومتماسكة. وفي ظل الظروف المحلية والإقليمية والدولية، في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، فإن تحقيق ذلك لم يكن أمرا سهلا أويسيرا، ومن ثم فإنه إنجاز (تاريخي) بكل المقاييس وبكل تجرد أيضا وهو ما تتضح أبعاده من خلال الإلمام بتلك الظروف وأبعادها، خاصة وأنها المرة الأولى التي تتحقق فيها الوحدة الوطنية العمانية ، وعلى النحو وبالكيفية التي تحققت بها، على مدى عقود بل و قرون عديدة، وهو ما أثر بشدة في حركة المجتمع والدولة العمانية في كل المجالات، فضلا عن إرساء واحد من اكثر أسس الاستقرار والأمن أهمية على ضفاف مضيق هرمز.

وفي ظل إحدى الحقائق السياسية الأساسية في منطقة الخليج والمتمثلة في انه يصعب فهم ما يجري في الخليج، سياسيا واقتصاديا وحتى اجتماعيا، دون فهم ما يجري في سلطنة عمان على وجه الخصوص، فإن الوحدة الوطنية العمانية وإن كانت قد تمت بفكر وأسلوب عمانيين، إلا أنها كانت لها تأثيراتها الواضحة في المنطقة المحيطة بالسلطنة وفي مستقبلها السياسي، الذي كان مرشحا للسير في اتجاه آخر لولا النجاح في تحقيق الوحدة الوطنية العمانية، والانطلاق من ذلك لتحقيق تطور اقتصادي واجتماعي كبير في السلطنة من ناحية، وإرساء قواعد محددة للتعامل السياسي مع محيطيها الإقليمي والدولي من ناحية ثانية أخرى.

ولم تكن مصادفة على أي نحو أن تستعيد سلطنة عمان خبرة التوازن في علاقاتها مع القوى الدولية، وهي الخبرة التي تعود الى النصف الأول من القرن التاسع عشر، وان تسعى في نفس الوقت الى نزع ألغام قضايا الحدود عبر التوصل الى اتفاقيات دولية معترف بها بشأن حدودها مع جيرانها وبكيفية حولت تلك الحدود الى جسور ومنافذ لتبادل المصالح وتنميتها .

يضاف الى ذلك أن القناعة العمانية بأهمية وضرورة السلام والاستقرار لحاضر المنطقة ومستقبلها قادت الى الحفاظ دوما على خطوط اتصال وتواصل بشكل دائم ومفتوح مع كل الأطراف العربية والدولية، ثم لم تعرف السياسة العمانية (المقاطعة) في العلاقات مع الدول العربية، كما اتسمت بالقدرة على الحركة في محيط علاقاتها التاريخية مع دول حوض المحيط الهندي ويفسر ذلك الكثير مما يتصل بالسياسة الخارجية العمانية.

وإذا كانت الفقرات تلك قد نشرت قبل خمسة عشر عاما، فإنها تظل الآن تحمل معاني ودلالات وركائز بالغة الأهمية في ظل ما تمر به وتشهده المنطقة، في الخليج وعلى المستوى العربي، من تطورات وتحديات ومخاطر، ليس فقط لأن ما قدمته وتقدمه عمان يمتد بالخير الى محيطها، ولكن أيضا لأن الركائز والأسس التي وضعها جلالته، وتعهدها بالرعاية، وتمسك بها، برغم تبدلات وتطورات عديدة، أثبتت ضرورتها وأهميتها، سواء بالنسبة للسلطنة دولة وشعبا ومجتمعا ، أو بالنسبة للجهود المبذولة الحفاظ على السلام والأمن والاستقرار في المنطقة من حولها. والمؤكد أن الحفاظ على تلك الركائز والأسس والمكتسبات التي تحققت على مدى الأعوام السبعة والأربعين الماضية، يقع على عاتق أبناء الوطن وفي المقدمة منهم الشباب ، المدعو الى دراسة تجربة التنمية الوطنية والتمسك بقوة بركائزها وأسسها التي يعود الفضل فيها الى رؤية جلالته وبعد نظره، والى تجاوب أبناء الوطن وقيامهم بدورهم كشركاء وأصحاب مصلحة في التنمية والحفاظ على مكتسباتها.