الملف السياسي

العبور الآمن.. نحو مزيد من التنمية المستدامة

24 يوليو 2017
24 يوليو 2017

علاء الدين يوسف -

لم تعد المقارنة بين واقع الحال والأوضاع القائمة قبل انطلاق سنوات النهضة المباركة، وما بعدها هي المقياس أو المعيار الوحيد لتحديد حجم وقيمة الإنجازات التي تقترب من حد الإعجاز البشري على أرض السلطنة وفي مختلف ربوعها.

ولعل المعايير الدقيقة للحديث عن إنجازات النهضة المباركة على مدى سبعة وأربعين عامًا من عمر الزمان تتمثل في مقارنة ما هو قائم حاليًا على أرض السلطنة بمحيطها الإقليمي وكثير من بقاع العالم، لنصل إلى حقيقة واضحة وضوح الشمس لا تخطئها عين ولا ينكرها إلا جاحد أو حاقد.

تؤكد أن أسس الدولة العصرية مكتملة الأركان في كل ربوع وقطاعات السلطنة، بعدما حققت معدلات تنمية اقتصادية وبشرية واجتماعية تراكمية هائلة نقلتها نقلة حضارية وعلمية وإنسانية غير مسبوقة، في عديد من دول العالم، ليس على الصعيد الإقليمي فحسب، ولكن على الصعيد الدولي كذلك وبجهود وإمكانات ذاتية سخرتها القيادة الحكيمة، بسياسات رشيدة لبناء الدولة الحديثة والعصرية بعد إطلاق المفاهيم المتقدمة لبناء الحياة الجديدة التي كانت بالفعل فاصلًا بين عصرين، ولا شك في أن نتائج هذه السياسات هي ما جعلت السلطنة تتبوأ مكانتها المتقدمة والمستحقة في مؤشرات التنمية بمختلف أشكالها والتي تصدرها بشكل سنوي منظمات دولية موثوقة، ولم يكن ذلك ممكنا إلا بتبني سلسلة من البرامج المستنيرة في كل الاتجاهات، ويمكن إيجازها في النقاط التالية:

أولا: البناء المؤسسي للدولة، ففي سياق الجهود الهادفة إلى تحسين الحياة المعيشية للمواطن وتوفير فرص عمل للمواطنين، والارتقاء بالمؤسسات السياسية -التشريعية منها والرقابية- وتوسيع صلاحياتها وضمان استقلاليتها، وتفعيل آليات وأدوات إشراك المواطن في اتخاذ القرار وتأسيس القاعدة الضامنة لحقوقه الملبية لطموحاته ومطالبه، جاءت الخطوة الكبرى بمنح المجالس المعنية الصلاحيات الكافية وفقًا لما يبينه النظام الأساسي للدولة والقوانين النافذة، التي عكست صفحة تاريخية جديدة من التطورات الواسعة والشاملة تتعزز فيها المشاركة الشعبية، حيث اتسمت سنوات النهضة المباركة بترسيخ دور ومكانة مؤسسات الدولة السياسية والتشريعية والقانونية والاقتصادية والمجتمعية بحيث أصبح لكل منها دوره الواضح والمؤثر ضمن منظومة مؤسسية متكاملة لإدارة شؤون البلاد مما عاد عليها بالتوازن و الاستقرار في مختلف القطاعات، وساهم ذلك بالقطع في تحقيق درجات عالية من التنمية الاقتصادية والبشرية والعلمية وزيادة درجات الوعي السياسي والثقافي لدى المواطنين، ليصبحوا بشكل أو بآخر، شركاء في عملية صنع القرار، وليس أدل على ذلك من مشاركتهم الجادة والمؤثرة في كل الانتخابات التي شهدتها البلاد خلال الأشهر الماضية.

واليوم يمكن الحديث عن مؤسسات متكاملة وواضحة المعالم كمجلس الدولة ومجلس الشورى، على الصعيد البرلماني، والمجلس الأعلى للتخطيط ومجلس الوزراء ومؤسسات أخرى عديدة، على المستوى التنفيذي، ترسخ بالفعل مفهوم دولة المؤسسات بأجهزتها العصرية وتقسيمها الإداري الذي يسهم في التكامل بين المؤسسات في إطار محددات ديمقراطية تتناغم مع الخصوصية العمانية، في صدارتها الحوار المباشر بين القيادة والمواطنين في مختلف أنحاء الوطن، للتعرف على الخريطة الحقيقية للواقع بكل تجلياته وطبيعة ونوعية المشكلات التي تواجه الناس من خلال طرحها بشكل مباشر من دون واسطة أو قيود، وهو نمط غير متاح بالصورة ذاتها في كثير من دول المنطقة، ومع ذلك تحققت الديمقراطية في صورتها المؤسسية عبر صيغة مجلس عمان، الذي يضم مجلس الدولة ومجلس الشورى، كأوضح مثال، مما يعمق الإحساس بالمواطنة قولًا وعملًا، ومن واقع التجارب العملية العديدة والممتدة يمكن القول إن المؤسسية العمانية تطورت على امتداد العقود الأربعة الماضية، ليس فقط على الصعيد التنظيمي، ولكن أيضا على صعيد الممارسة والدور الذي تقوم به مؤسسات الدولة وتهيئة المناخ لمشاركة أوسع وأعمق من جانب المواطنين العمانيين في صياغة وتوجيه التنمية الوطنية.

ثانيا: التنمية الشاملة، فإذا كانت السلطنة قد تحولت بالفعل وبعد جهود ضخمة على مدى العقود الأربعة الماضية إلى دولة مؤسسات تنعم بدرجة عالية جدًا من الاستقرار والأمن والسلام الداخلي والاحترام الإقليمي والدولي نتيجة سياسات متكاملة وشاملة في النواحي الاقتصادية والتنموية و الاجتماعية والثقافية، فهذا يعني ضمن رسائل كثيرة أن سنوات المستقبل يجب أن تشهد مزيدًا من الإنجازات بقدر ما يجب أن تكون سنوات لحصد الثمار نتيجة الغرس السليم الذي حققته قيادة البلاد على مدار تلك السنين، والمعادلة هنا متكاملة وواضحة بشكل تام، فحصد الثمار يعني تحقيق المزيد من الإنجازات والمكاسب تأسيسا على ما تحقق من مظاهر نهضوية للإنسان والبنيان، وبما يضمن كذلك عبورًا آمنًا نحو المستقبل وتحقيق المزيد من معدلات التنمية المستدامة، فالسلطنة اليوم - وبشهادة الكثير من المؤسسات والهيئات الدولية - مؤهلة لانطلاقة جديدة بعد الطفرة الكبيرة التي تحققت على صعيد التنمية البشرية وتطوير التعليم بكافة أشكاله ومراحله وإتاحة مساحة أكبر أمام تعليم الفتيات وعمل المرأة وجعلها شريكا حقيقيا في عملية البناء والتنمية، فضلا عن البنية التحتية الحديثة من شبكات الطرق والمرافق والخدمات العامة والطاقة والاتصالات التي وضعت لخدمة المواطن أولا، ووفرت في الوقت ذاته أساسًا متينًا لإنجاز الخطط التنموية في المجالات الصناعية والزراعية والسياحية وصناعة الموانئ وعمليات الصيد ومختلف الأنشطة التجارية الداخلية والخارجية، ومكنها ذلك أيضا من إقامة المناطق الصناعية الحرة ومناطق التنمية الشاملة الكفيلة بجذب الاستثمارات الإقليمية والعالمية بشكل يدعم الاقتصاد العماني ويوسع من دائرة التنوع في مجالاته، وذلك هو الأمل الأكبر الذي يمكن أن تعول عليه السلطنة في تحقيق المزيد من الإنجازات.

ثالثا: الاستثمار في الإنسان، فقد تميزت البدايات أيضا بوجود قناعة قوية لدى القيادة الحكيمة مؤداها أن الإنسان هو صانع النهضة، ولا بد من تأكيد روح المواطنة لديه، وهو ما استوجب ضرورة المحافظة على إرادة المجتمع العُماني وتقاليده الموروثة، التي تتجلى في الرضا الاجتماعي العام من جهة، وعلى روح العصر ومتطلبات ومنطق التاريخ المتطور على أسس علمية حديثة من جهة أخرى، وقد جاءت النصوص الدستورية من النظام الأساسي للدولة مؤكدة على مفهوم الوحدة الوطنية، ففي المادة الثانية عشرة من الباب الثاني من النظام الأساسي أن «العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين العُمانيين دعامات للمجتمع تكفلها الدولة» و «التعاضد والتراحم صلة وثقى بين المواطنين وتعزيز الوحدة الوطنية واجب، وتمنع الدولة كل ما يؤدى للفرقة أو الفتنة أو المساس بالوحدة الوطنية»، وتمثلت أول خطوة للقيادة الحكيمة لجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- في هذا السياق، في توجيه نداء لكل عُماني بالعودة إلى وطنه وعقد الولاء للوطن واختياراته النهضوية، وفي هذا السياق أعلن جلالته أيضًا عن إعادة الجنسية لمن فقد جنسيته باعتبارها أول خطوة للتمتع بصفة المواطنة، وقد تضمن هذا النداء أمورًا مهمةً منها الدعوة إلى تعميق الوحدة الوطنية وحشد كل الطاقات في البلاد.

وفي منظومة النهضة أيضا، تم الاعتماد على التخطيط، سواء قصير الأجل أو طويل الأمد، لإحداث نقلة تنموية في البلاد من خلال التنمية البشرية بمزيد من الاستثمار في الإنسان، وتمكينها من التصدي لمختلف مظاهر التخلف الذي كان قائما قبل يوليو 1970، وهو ما تجلى في سلسلة من الخطط الخمسية التي تحددت لها أهداف في المدى المنظور، مما أسهم في تحويل السلطنة خلال السنوات الماضية إلى دولة ذات وضعية متقدمة، حققت معدلات نمو عالية تتناسب مع إمكاناتها ومواردها، وكذلك كان الحرص الشديد على بناء منظومة خدمية متطورة طالت بشكل رئيسي قطاعات التعليم والصحة والتكنولوجيا والإسكان والسياحة والبيئة والرعاية الاجتماعية والخدمات العامة والمرافق والطرق وغير ذلك، فتحققت نتائج غير مسبوقة بالنسبة للمستفيدين منها، وهو ما يجسد بقوة وبوضوح قاعدة مهمة في الحكم الرشيد تقوم على ضرورة أن يلمس المواطن العوائد المباشرة عليه من خطط التنمية، متجلية فيما يقدم له من خدمات تتماس مع واقعه اليومي، فيشعر بالرضا ويتعمق انتماؤه للوطن، وهي سمة ملحوظة في المواطن العماني الذي يعرف عنه حسه الوطني العميق، ما يجعل القيادة تتفاعل مع تطلعاته باستمرار وتحقق له المزيد، الأمر الذي يساعده على البقاء دوما في خانة النهوض.

رابعًا: السلام الاجتماعي وثقافة التسامح، فالتقارب والوئام الإنساني جزء أصيل ومتجذر في الثقافة والمجتمع العماني القائم على التسامح والتعايش في إطار وطن واحد يستوعب الجميع ويتلاقى مواطنوه على هدف واحد ومستقبل مشترك في تحقيق الازدهار والتنمية، حيث قدمت السلطنة نموذجًا رائدا في المنطقة في التسامح والتعايش انطلاقًا من أن الاختلاف سنة والتعايش واجب، وأن تكلفة الصراع أعلى بكثير من تكلفة السلام والتعاون والتعايش، فالتقارب والوئام الإنساني هو القوة الدافعة لعملية التنمية والإعمار والتقدم وهو ما أوصل عمان إلى هذه المرتبة المتقدمة في التنمية البشرية والتنمية المستدامة وارتفاع مستوى معيشة مواطنيها، ولذلك فإن ثقافة التقارب والوئام الإنساني هي نمط حياة لقيادتها ولمواطنيها، تجسده الروح العمانية الأصيلة، التي مزجت بين الحداثة والتطور والحفاظ على التقاليد المجتمعية الأصيلة في التكافل والتواصل والتراحم بين أبناء الوطن، فلا يمكن لمجتمع أن يتطور وأن يتقدم وهو يعيش في ظل حالة الصراع والاستقطاب والكراهية ونظرية المباراة الصفرية التي ترتكز على وجود إما فائز أو خاسر، بينما في الواقع أن الكل خاسر من الصراع. وحقيقة الأمر أن جميع العناصر التي تم التطرق إليها في السطور السابقة ليست سوى قطرات محدودة في محيط عوامل كثيرة وعديدة ساهمت بشكل أو آخر في صنع المعجزة البشرية التي تحققت على أرض السلطنة عبر عقود النهضة المباركة في سبيل الوصول إلى الدولة العصرية، بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- .