الملف السياسي

ثلاثة مسارات للتحليل .. التنظيم والمقاتلون الأجانب وأسطورة الخلافة

10 يوليو 2017
10 يوليو 2017

د. صلاح أبو نار -

هل هي نهاية مشروع دولة الخلافة؟ أم مجرد هزيمة مؤقتة؟ واقع الأمر إننا أمام هزيمة لمشروع سياسي،أطلقته قوة تنظيمية ذات زخم حركي دون أن يكون ملائما لزمانه ودون أن توفر له قاعدة صلبة، أو الاستراتيجيات القادرة على حمايته.

بسقوط الموصل والرقة، يمكن القول إن الهجوم البري والجوي المتواصل الذي انطلق منذ أكتوبر 2016، قد انتهى بإسقاط «الدولة الإسلامية في العراق والشام».

وحسب أرقام البنتاجون فقد تنظيم داعش عند نهاية 2016 ،وليس عند اكتمال سقوط الموصل،57% من أقاليمه العراقية و27% من أقاليمه السورية.

هل هي نهاية لمشروع دولة الخلافة؟ أم مجرد هزيمة مؤقتة؟ واقع الأمر إننا أمام هزيمة لمشروع سياسي، أطلقته قوة تنظيمية ذات زخم حركي، دون أن يكون ملائما لزمانه، ودون أن توفر له قاعدة صلبة، أو الاستراتيجيات القادرة على حمايته. قفزة في عالم الخيال التاريخي، ممزوجة بسياسات دعائية مخططة وكثيفة ومؤثرة. ولكن نهاية المشروع لا تعني حتما نهاية القوة التي أطلقته، إذ تظل قادرة على الحياة والنمو عبر سياسات أخرى.

وإذا كان الأمر كذلك: ماهي السيناريوهات المتاحة لداعش على المدى المتوسط؟ سنتناول الموضوع عبر ثلاثة مسارات، يتعلق كل مسار بأحد مستويات وجود التنظيم.

يتناول المسار الأول التنظيم كقوة سياسية، تنتهج استراتيجيات محددة في سياق سياسي يضع عليها قيودا ويمنحها فرصا. هنا يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات:

أولها اتجاه التنظيم لإعادة بناء قواعده المادية والمؤسسية، سعيا لإعادة تأسيس دولة الخلافة المزعومة.

إذا نظرنا إلى وقائع الميلاد والتطور يمكن القول أن التنظيم ظهر وتطور كامتداد لأزمة الدولة القومية العراقية من جهة، وتحولات السياقين الإقليمي والدولي من جهه أخرى.

فلقد ولد من رحم الغزو العراقي للكويت، ثم المواجهة العسكرية مع أمريكا، والاحتلال الأمريكي له في أعقاب هجمات 11 سبتمبر. اسفر الغزو الأمريكي عن نتائج مدمرة. تحلل سلطة الدولة، تبعا لتحلل آليات تركيز السلطة والتنظيم المركزي للمجال الاجتماعي، واختفاء قوة الردع النهائية مع حل الجيش العراقي. وتفكك في الوحدة الإقليمية، تجسد في استقلالية متفاوتة وفقا للاختلافات العرقية والعشائرية. وانقلاب جذري في التراتبيات الاجتماعية والسياسية. وانطلاق موجة سياسية إسلامية عارمة، توافقت مع أزمة القوى البعثية.

وبالتوازي مع ذلك لعبت عناصر في السياقين الإقليمي والدولي دورا في صعود التنظيم. منها قوة وتدفق التيارات الجهادية علي المستويين العربي والإسلامي،والدور المباشر والتحفيزي للقوي الإقليمية، والتدفقات الجهادية العابرة للحدود المتصاعدة في أعقاب الغزو الأمريكي لأفغانستان، ونمو الأدوار الإقليمية والدولية تجاه الأزمتين السورية والعراقية.

وعندما ننظر للسياقات السابقة التي منحت التنظيم إمكانيات النمو، سنجدها في مساحة أساسية منها لا تزال فاعلة. ومن شأن هذا منح هذا السيناريو درجة من إمكانية النجاح. إلا أن العناصر التي تغيرت داخل السياقين الإقليمي والدولي، تقلص تلك الإمكانية كثيرا، لتحصر تأثيرها في مجرد مواصلة التواجد ككيان تنظيمي.

فلقد تغير الوضع السوري جذريا.

في سنوات النمو السوري، سيطرت المهادنة العسكرية على علاقة داعش بالأسد، مما مكنها من بناء قاعدة آمنة وحيازة موارد ثرية. والآن تغير الوضع تماما. فالسلطة السورية لم تعد محاصرة، وانتقلت إلى الهجوم واستعادت نفوذها المفقود، وكان هذا التحول هو ما مكنها من استعادة الرقة ضمن أقاليم أخرى.

كما تغير الوضع الدولي. قبل عامين من إعلان الخلافة، تلقى البنتاجون تحذيرا استخباراتيا، إن داعش في طريقها لإعلان إمارة إسلامية مستقلة. ولم يستجب احد، تفضيلا للمصالح الأمريكية وحلفائها في سوريا، الذين رأوا في الإمارة عازلا لنفوذ سوريا وحلفائها الإيرانيين واللبنانيين. والآن انقلب موقف واشنطن، بفعل التدخل الروسي وأعمال التنظيم الإرهابية.

والسيناريو الثاني هو الكمون السياسي. وفقا له ينسحب التنظيم لفترة، ليندمج في قواعده يساعده في ذلك كون 90% من مقاتليه عراقيون. وهناك سيحشد موارد جديدة، ويجدد قواعده عبر الاندماج في الصراعات الاجتماعية. هذه الاستراتيجية مناسبة لوضعه الذاتي الراهن، وستجنبه مواجهة غير متكافئة، وستبقيه آمنا لحين تغير حاسم في الموازين، والأهم انه سبق للتنظيم ممارستها بنجاح فيما بين 2007 و2011. إلا أن هذا السيناريو سيواجه مشكلة التعبئة التي تعرض لها أعضاء التنظيم. تعبئة شاملة، وزاخرة بالرموز والصور التراثية، وتنضح بمفاهيم القوة والمواجهة. وفي ظل تعبئة كهذه سيكون من الصعب على القيادة جذب مقاتليها صوب الكمون، وحتما ستحدث خلافات وانشقاقات.

والسيناريو الثالث هو الانخراط في سلسله هجمات إرهابية موجهة للخصوم الإقليميين والدوليين. وهو خيار جاذبيته عالية. فهو يتفق مع المزاج الدموي للقيادة، ومع المكانة التي يضعونها للإرهاب الدولي كوسيلة أساسية لطرح نفسها كقوة قائدة للجهاد العالمي. كما انه سيجد بيئة مواتية تماما، داخل بعض المناطق العراقية والسورية. كما من شأنه أن يحفظ للمقاتلين معنوياتهم. إلا أنه سيسفر عن أضرار فادحة. فلكي يؤثر يجب أن يزداد كثافة ويوسع نطاقه الجغرافي، وهو أمر سيعرض التنظيم لخسائر فادحة، واختراقات أمنية عميقة، واغتيالات لقياداته، وتقليص جذري لقاعدة المتعاطفين.

ماذا بشأن المسار الثاني؟ يتعلق هذا المسار بالمقاتلين الأجانب في التنظيم. في الانتكاسة الراهنة سيواجه هؤلاء المقاتلون ضغوطا، تدفعهم لخيارات متباينة. فماهي هذه الخيارات؟

في تقرير صادر عن مجموعة سوفان بتاريخ نوفمبر 2015، قدر عددهم ما بين 27000 و31000 من 86 دولة. لا يشكلون حسب تقدير متفق عليه، سوى 10% من مقاتلي داعش والبقية عراقيين. من أين جاء هؤلاء؟ وفقا للتقرير جاء 5000 من أوروبا الغربية، و4700 من الجمهوريات السوفيتية منهم 2400 من روسيا، و8000 من المغرب، و8240 من الشرق الأوسط.

وتطرح دراسة تناولت الخلفيات الديموجرافية للمقاتلين، أن الدافع الأساسي لانضمامهم أيديولوجي أساسا، يليه الدافع المتصل بصعوبات استيعابهم داخل المجتمعات الغربية، مستبعدة تأثير الدافع الاقتصادي.

ما الذي يمكن أن يفعله هؤلاء؟ سيناريوهات مختلفة. ستواصل نسبة منهم البقاء مع التنظيم، ولكن أخرى ستهجره. إلى أين؟ أمامهم عدة خيارات. الأول الاتجاه لمنظمات جهادية أخرى داخل المنطقة، قريبة من خطوطها العقائدية. والثاني العود إلى موطنها محبطة من التجربة، وهناك تقرر النسيان. والثالث التحول إلى مناضلين جوالين، يجوبون العالم بحثا عن معركة جهادية. والرابع العودة إلى بلدانهم بنية انطلاقة جهادية جديدة داخلها، ستأخذ غالبا شكل عمليات إرهابية.

وتبعا لما سبق طرحه حول دور العوامل الأيديولوجية، نتوقع أرجحية الخيارين الثالث والرابع. و الرابع اخطرهما، اذا أخذنا في الاعتبار ارتفاع نسبة انتمائهم لبلدان لها دورها المركزي في التحالف الدولي المناهض لداعش مثل روسيا، ووجود قواعد اجتماعية إسلامية واسعه ومفتوحة أمام التأثير الجهادي داخل بعضها.

ماذا بشأن المسار الثالث؟ حمل تأسيس الدولة الإسلامية وبالتحديد إعلان الخلافة شحنة عاطفية هائلة..

إن المشهد المسرحي المؤثر، لإعلان البغدادي الخلافة من قلب جامع النوري القديم، ربط في مخيلة تلك القطاعات بين الدولة الإسلامية، وفكرة الخلافة التي لا تزال حية فاعلة في مخيلة العالم الإسلامي كله. ونحن نعرف جيدا، كيف تلقي قطاع من العرب بمرارة إعلان أتاتورك إلغاء الخلافة العثمانية. حدث هذا بينما كان العرب يتمردون على سلطة العثمانيين، ويشرعون في تأسيس دولهم المستقلة، وبينما كانت المخيلة العربية لا تحمل صورا مقدسة عن الخلافة العثمانية.

ولم يكن الأمر مجرد هذا المشهد المسرحي، فلقد كان مشهدا يرتكز على واقع مادي. كانت هناك سلطة ترتكز على إقليم، يمتد من العراق موطن الخلافة الإسلامية، إلى سوريا موطن الخلافة الأموية. وكانت الدولة تبدو منتصرة في حروبها، ولها دواوينها ومدارسها ومؤسساتها القضائية، وكلها تنضح بالأسماء والكنايات الإسلامية. وكان كل جنودها في مشاهد الإعدام القميئة، طوال القامة يتحركون بجلال مصطنع، لكنه مؤثر على العقول البسيطة. والحاصل أن إعلان الخلافة حمل ولا يزال شحنة وجدانية عالية، تعرض لها قطاع بسيط الثقافة. صحيح أن واقعها كان مختلفا، وانهارت سريعا ولم يأسف عليها أحد في عقر دارها. إلا أن للرموز قدرة على الحياة، رغم خواء التجارب التي حملتها. فوعي الرموز ليس عملا عقلانيا، بل عملية محملة بانحيازات ومخلوطة بالمخيلة التاريخية، وبالتالي تظل قادرة على إلهام قطاعات محدودة الثقافة في عالمنا هذا.