الملف السياسي

عنصريّة زمن اللا يقين

03 يوليو 2017
03 يوليو 2017

رفيف رضا صيداوي -

على الرّغم من المُبادرات والتوجّهات العالميّة المُناهِضة لأشكال التمييز العنصريّ، وأبرزها «الاتّفاقية الدوليّة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري» الصادرة عن الأُمم المتّحدة، والتي تنصّ المادّة الأولى منها على أنّ المقصود بالتمييز العنصريّ هو كلّ تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللّون أو النسب أو الأصل القومي أو الجنس..  

لا شكّ أنّ مصطلح «عنصريّة» اكتسى مع الزَّمن مدلولات متنوّعة بحسب السياقات التاريخيّة - الاجتماعيّة المتغيّرة. فقد تراجع مدلول العنصريّة المقترن بلون البشرة وغيره من السمات الفيزيقيّة، ليتطوّرَ نوعٌ من العنصريّة يستند إلى متغيّرات ثقافيّة ودينيّة، وهو الأمر الذي عزَّز الكلام على «عنصريّة جديدة» (أو نيو-عنصريّة) أو على «عنصريّة رمزيّة» (Racisme symbolique)، ولاسيّما أنّ التعريف الشائع للعنصريّة هو أنّه «شعور يُبديه شخص تجاه شخص أو فئة معيّنة من الناس على أساس انتمائهم العرقيّ أو الديني،ّ وكثيرا ما يكون هذا الشعور مصحوبا بكرهٍ أو عداء. ويُمكن أن يمتدّ ذلك الشعور إلى أبعد من ذلك، فيصل إلى تعامل أو تصرّفات عنصريّة، كاستعمال العنف أو الإكراه أو المنع من حقٍّ ما». فماذا عن هذه العنصريّة الجديدة أو الرمزيّة؟

ثمّة جهود كثيرة تمّ بذلها عالميّا من أجل مُكافحة العنصريّة كونها من مخلّفات الماضي غير الحضاري. ولقد أكّدت اليونيسكو في العام 2001 أنّ التنوّع الثقافي يشكّل أحد جذور التنمية، وأنّ أهمّيته بالنسبة إلى الجنس البشري شبيهة بأهمّية التنوّع البيولوجي بالنسبة إلى الطبيعة. وفي العام 2005 صادقت اليونيسكو على معاهدة حول احترام التنوّع الثقافي، كما أصبح يوم 21 (مارس) من كلّ سنة يوما دوليّا للقضاء على التمييز العنصري. لكنّ هذه الجهود لا تخفي مَيل العالَم اليوم إلى مزيد من العنصريّة تحت حجج مختلفة. وتتمثّل هذه العنصريّة - بحسب إيفلين هاير وكارول باليجو، نقلا عن موضوع «ما هي العنصريّة» لمود نافار Maud Navarre، الوارد في عدد (مايو) 2017، رقم292، من مجلّة «العلوم الإنسانيّة» الفرنسيّة -، في « اعتبار الاختلافات بين الأفراد، سواء الفيزيقيّة منها أم الثقافيّة، كاختلافات وراثيّة، ثابتة وطبيعيّة؛ بحيث تُنشِئ العنصريّة هرميّة بين الفئات البشريّة، يُمكنها أن تُترجَم من خلال مشاعر وأفعال تتراوح بين التمييز وإبادة الآخر».

وربّما ليس هناك من داعٍ للتذكير بأنّ هذه العنصريّة الجديدة أو الرمزية اشتدّت وطأتها في العقود الأربعة الأخيرة، لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ اشتداد وطأتها، تزامن مع شيوع مفاهيم مثل «صراع الحضارات» و«صراع الثقافات»، وغيرها من المفاهيم والمصطلحات التي تشير إلى تحلّل العالَم من وعوده بـ«الديمقراطيّة»، و«دولة الرعاية»، و«العدالة الاجتماعية» وغيرها من المفاهيم التي احتوتها منظومة القيَم الليبراليّة والاشتراكيّة. وما اشتداد وطأة العنصرية، إلّا دليل على أنّها لم تولد من عدم، بل أنّها ارتبطت بماضٍ استعماريّ كرَّس الاستعلاء الأوروبيّ والأمريكيّ على سائر شعوب العالَم، من عرب وغير عرب.

لذا ليس من الغريب مثلاً أن يُخصِّص العدد 292 من مجلّة «العلوم الإنسانيّة» السابق ذكره ملفّا خاصّا عن العنصريّة في فرنسا، حيث ترد تحت عنوان «فرنسا، بلدٌ منظورٌ إليه بوصفه عنصريّاً»، نتائج استطلاع للرأي حول العنصريّة عائد للّجنة الوطنية لحقوق الإنسان في فرنسا. وبحسب نتائج الاستطلاع هذه، قدَّر نحو 85 % من الأشخاص المقيمين في فرنسا أنّ العنصرية مُنتشرة فيها، فيما اعتبر نحو 29 % أنّ العنصريّة منتشرة جدّاً، وأنّها بلغت مستوى لم يسبق أن بلغته منذ عشر سنوات.

أمّا الفئات المُستَهدفة من هذه العنصريّة (بحسب 51% من المُستجوَبين)، فهي تتألّف من الأقليّات الوطنيّة، من إثنيّة أو دينيّة، مثل الأفارقة الشماليّين والمسلمين. أمّا المُتعاطفون مع الجبهة الوطنيّة، فكانوا أكثر الذين اعتبروا أنّ هناك عنصريّة ضدّ البيض. ولم يعُد خافيا على أحد أنّ هذا الاتّجاه راح ينمو ويتطوّر في أوروبا بعامّة، وفي فرنسا بخاصّة، نتيجة الإرهاب الذي تقوده الجماعات الإسلاميّة المتطرّفة، وما أفضى إليه ذلك من انتشار ظاهرة «الإسلاموفوبيا».

غير أنّ الخطر الحقيقي يتمثّل في أدلجة الاتّجاهات والمواقف هذه، تارةً باسم «الإسلاموفوبيا»، وطوراً باسم «مناهضة العنصريّة الموجَّهة ضدّ البيض»؛ بمعنى تبرير هذه الاتّجاهات باسم «المنهجيّة العلميّة» و«الحياد العِلمي» وغيرها من سلوكيّات النّهج العلمي والأكاديمي، وذلك بالموازاة بين عنصريّة موجَّهة ضدّ السود (وبالتالي ضدّ كلّ مَن هو غير أوروبي)، وأخرى «موجَّهة ضدّ البيض». وربّما تناسى هؤلاء أنّ «العنصريّة التقليديّة»، المتولّدة أساسا عن «التمركز الأوروبي حول الذات»، هي التي أسّست لما بات يُسمّى «عنصريّة موجَّهة ضدّ البيض».

إنّه جدل إيديولوجيّ بلبوس علميّ، يخفي المضمون الاجتماعي للصراع، بوصفه صراعا بين أقوياء وضعفاء، وأغنياء وفقراء، ومُستعمِرين ومُستعمَرين، مُستغلِّين ومُستغَلّين...إلخ، وذلك على الرّغم من نهاية أزمنة الاستعمار؛ إذ إنّ استعمارا غير مباشر تقوم به العَولمة في حقبتها الأخيرة لمصلحة مُستعمِري الأمس، طالما أنّهم لا يزالون يشكّلون قطبا من أقطاب قوى النفوذ العَولميّ.

فعلى الرّغم من المُبادرات والتوجّهات العالميّة المُناهِضة لأشكال التمييز العنصريّ، وأبرزها «الاتّفاقية الدوليّة للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري» الصادرة عن الأُمم المتّحدة، والتي تنصّ المادّة الأولى منها على أنّ المقصود بالتمييز العنصريّ هو «كلّ تمييز أو استثناء أو تقييد أو تفضيل يقوم على أساس العرق أو اللّون أو النسب أو الأصل القومي أو الجنس، ويستهدف أو يستتبع تعطيل أو عرقلة الاعتراف بحقوق الإنسان والحرّيات الأساسية أو التمتّع بها أو مُمارستها على قدم المساواة في الميدان السياسي أو الميدان الاقتصادي أو الميدان الاجتماعي أو الميدان القضائي أو أيّ ميدان آخر من الميادين العامّة»؛ على الرّغم من ذلك إذاً، برزت العنصريّة المبطَّنة أو الكامنة إلى السطح، وذلك مع تغيّر الظروف العالميّة. هذه العنصريّة المبطَّنة التي اخترنا فرنسا مثالاً للتدليل عليها، فجّرتها الظروف الداخليّة لهذا البلد، والتي عبّرت عنها الانتخابات الفرنسيّة الأخيرة التي سال حبر كثير حولها في العالَم بأسره. لكنّ ذلك لم يكُن وليد الساعة، إذ إنّ أدبيّات كثيرة كانت قد تناولت بالنقد النظرة الدونيّة لغير الأوروبيّين أو لغير الفرنسيّين التي كانت تتجلّى من خلال أدوات إيديولوجيّة مختلفة. ففي كتابها «صورة العرب والإسلام في الكُتب المدرسيّة الفرنسيّة» (Les Arabes et l›Islam vus par les manuels scolaires français) مثلاً، الصادر في العام 2003 عن دار نشر «كارتالا» في باريس، بيّنت الباحثة اللّبنانية مارلين نصر كيف أنّ شخصيات العرب أو البدو في نصوص الكُتب المدرسية للمرحلة الابتدائيّة في فرنسا تتّسم بالدونية، ولاسيّما لدى مقارنتها بشخصيات فرنسية. ولئن اندثرت بعض الصُّور النمطيّة عن العرب بحسب الكِتاب، مثل«العرب متأخّرون» أو «العرب بدائيون»...، فإنّ بعض الصُّور مثل «العربيّ سلبيّ»، «العربيّ غير مُبادر»...إلخ، بقيت على حالها.

هذا الوضع الكامن إذاً سهّل على اليمين المتطرّف التباهي بعنصريّته من أجل بلْورة كلّ ما حقّقه من نجاح على مدى العقد الأخير، والذي توِّج بالانتخابات الرئاسيّة الفرنسيّة ونتائجها التي تمنح المزيد من الأمل للاتّجاه العنصري ليترسَّخ أكثر ويشتدّ عوده أكثر فأكثر. وهو ما حدا بالكاتب والفيلسوف الفرنسي جان دورموسون إلى القول إنّ الجبهة الوطنية باتت « تمثّل واحداً من كلّ أربعة ناخبين، وربّما واحداً من كلّ ثلاثة فرنسيّين» نقلاً عن عثمان تزغارت، «سلطة المثقّف اغتالها ماكرون...(ورعاته)» جريدة الأخبار، 5 /‏‏ 5 /‏‏ 2017، العدد 3168). حتّى أنّ الانقسام والتقاعس غير المعهودَين من قبل المثقّفين الفرنسيّين، بحسب المرجع السابق نفسه، «سبّبا تصدّع الجبهة الجمهورية، التي شكّلت على مدى ربع قرن حصنا منيعا في مواجهة اليمين المتطرّف». وهو ما دفع بجان دورموسون في «لو جورنال دو ديمانش» إلى توصيف الوضع على أنّه «حالةٌ من عدم اليقين لم تكُن يوما عنيفة بهذا القدر»(23 /‏‏ 4 /‏‏ 2017).

*بالتعاون مع مؤسّسة الفكر العربي