تقارير

موضوع الصحّة كما تعكسه عبارات التحيّة والسَّلام

01 يوليو 2017
01 يوليو 2017

د.محمود الذوّادي* / عالم اجتماع - تونس -

يعود سبب كتابة هذه المقالة إلى كلمة «شلونك» التي سمعتها كثيراً لدى العراقيّين أثناء دراستي كطالبٍ تونسيّ في بغداد منذ عقود. لم أفكّر يومئذ في تفكيك معنى الكلمة المكوَّنة من جزأين (إش ولونك أي كيف حالك). فبعد عودتي مباشرةً من العراق إلى تونس، سمعتُ بالمصادفة إذاعة لندن تحلِّل معنى «اشلونك» قائلة إنّ السؤال عن لون الشخص الذي تتضمّنه كلمة «اشلونك» يرجع إلى أنّ لون وجه الشخص فيه إشارة كافية إلى حالته الصحيّة وربما حتّى إلى نوع المرض الذي قد يكون يشكو منه.

تمثّل ظاهرة تبادل التحيّة والسلام بين الناس في المجتمعات العربيّة، وغيرها، سلوكاً شائعاً في الحياة الاجتماعية اليومية. ويهتمّ عِلم الاجتماع بالحياة اليومية وبدراسة السلوكيات التي ينخرط فيها الأفراد يومياً كشرب القهوة وطريقة تنظيم الملابس على الأجساد، والمحادثات في...

بعبارة أخرى، يركِّز علم اجتماع الحياة اليومية على دراسة الأشياء الصغيرة والبسيطة والساذجة والفاقدة للأهمّية في حياة الناس، لكنّها تمثِّل، على الرّغم من ذلك جزءاً كبيراً من الوجود البشري. فبالنسبة إلى العلوم الاجتماعية، لا شيء يُعتبَرُ أمراً ساذجاً، كما أنّه لا شيء يُعتبَرُ واضح المعالِم. ويَعتبِر علماء الاجتماع السلوكيّات اليومية للناس سلوكيات مُكتسَبة، أي يتعلّمها الناس في بيئتهم، حتّى تصبح أموراً غير شعورية أو شبه طبيعية يقومون بها تلقائياً في محيطهم الاجتماعي.

برز عِلم اجتماع سلوكيات الحياة اليومية في القرن العشرين على الخصوص. فقد درس العالِم إلياس نوربرت طُرق الجلوس حول الطاولة وأساليب الزيّ وقواعد السلوكيات المهذَّبة/ ‏‏المؤدَّبة السائدة. فوجد أنّ هناك قواعد تُنظِّم تلك السلوكيات اليومية مثل القيام بتحية شخص نعرفه عند لقائه، أو شراء تذكرة قبل الركوب في القطار. باختصار، يقوم عالِم الاجتماع بكشف الحجاب عن السلوكيات اليومية «الطبيعية» عبر إلقاء الضوء على الجانب الاجتماعي «اللّاشعوري» الذي يُحدِّد السلوكيات هذه.

وبهذا الصدد لا تخلو مقدّمة ابن خلدون من لمسات علم اجتماع الحياة اليومية. يظهر ذلك تحديداً في حديثة عن حياة البدو، فيعرّفهم على أنّهم «المنتحلون للمعاش الطبيعي من الفلح والقيام على الأنعام، وأنّهم مقتصرون على الضروري من الأقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد ومقصّرون عمّا فوق ذلك من حاجي أو كمالي، يتّخذون البيوت من الشعر والوبر أو الشجر (...) وأمّا أقواتهم فيتناولون بها يسيراً بعلاج أو بغير علاج البتّة إلّا ما مسّته النار». سُبل التواصل بين الناس: يتمّ التواصل بين الناس بطريقتَين رئيسيّتَين: اللّغة والجسد. تمثّل اللّغة الوسيلة الأبرز والأكثر رحابة وقدرة على التواصل في أعقد الأمور وأكثرها تفصيلاً. على الرّغم من ذلك، يكون الجسم قادراً أيضاً على التواصل عبر بعض أعضائه وإشاراتها. فالمصافحة والابتسام هما ضرب من أدوات التواصل بين الناس. نركّز هنا على الكلمات والعبارات اللّغوية التي يستعملها الناس في القيام بالتحيّة والسلام على الآخرين في العديد من المجتمعات العربية، وذلك في أثناء لقاءات بعضهم ببعض، لقراءة مضامين موضوعاتها التي تركّز عليها تلك الكلمات والعبارات مثل كلمة «شلونك» في العراق و(يعطيك الصحّة) في تونس. وهي سلوكيات تندرج في صميم تأويل عِلم الاجتماع لرموز السلوكيات اليومية للأفراد والجماعات البشرية ومعانيها ودلالاتها.

وظائف التحيّة والسلام: تُعتبر عبارات السلام والتحيّة التي يتبادلها الناس، في أثناء لقاءاتهم، ظاهرة إنسانية في الشرق والغرب وفي الجنوب والشمال. ونظراً لحضورها الشامل لدى المجتمعات البشرية، لا بدّ، في رؤية المدرسة الفكرية الوظيفية في عِلم الاجتماع، أن تكون لتلك العبارات وظيفة أو وظائف مباشرة أو غير مباشرة. ولعلّ الوظيفة المباشرة الأولى التي يُرشِّحها عِلم اجتماع الحياة اليومية تتمثّل في فتح باب التفاعل بين الناس بطريقة أسهل وبترحاب مُتبادَل بين الأطراف المُتفاعلة. فجملتا «السلام عليكم» في المجتمعات الإسلامية والردّ عليها بجملة «وعليكم السلام»، تحفّزان الطرفَين على تواصل التفاعل بينهما. وبالمثل، فعبارات التساؤل عن حال الآخرين وصحّتهم عند لقاء الناس وبدء الحديث معهم، كما هو الأمر في عبارتَيْ «كيف حالك؟ وكيف صحّتك؟» اللتَين هما عبارتان تحثّان على الدخول في التفاعل لا على النفور منه. وفي استقبال المسافرين طالما يستعمل الناس في المشرق والخليج العربيّين عبارة «الحمد لله على السلامة»، بينما يستعمل التونسيون كلمة «عَسْلامة» أو «على سْلامْتك». أمّا في اللغتَيْن الإنجليزية والفرنسية، فعبارتا تحيّة الآخر لا ذكر فيهما لكلمة الصحّة بل تكتفيان بالسؤال العامّ عن حال الشخص الذي تُوجَّه إليه التحيّة. فالعبارة الإنجليزية هيHow are you ، والفرنسيّة comment ça va ، وهما عبارتان تسألان ضمنيّاً وجزئياً على الأقلّ عن صحّة الفرد المخاطَب. وهي تأويلات تسمح بطرحها أدبيّات دراسات عِلم اجتماع الحياة اليومية الذي يسعى إلى فهم دلالات أفعال الناس اليومية ومضمونها، وهو الأمر الذي يقرّبنا من المعالِم الإنسانيّة التي يُعبِّر عنها الناس من خلال سلوكيّات حياتهم اليومية.

صنفا السؤال عن حال الآخر: في المجتمعات العربية ثمّة نوعان من عبارة السؤال عن أحوال الآخرين هما:

-السؤال المباشر مثل ما ذُكر سابقاً في عبارتَيْ «كيف حالك؟ وكيف صحّتك؟» في بعض المجتمعات العربية المشرقية أو «اشنووَّ لحوال» كما يسأل التونسيون عن أحوال بعضهم البعض.

-السؤال غير المباشر الذي يستفسر بطريقة مختلفة عن أحوال المخاطَبين. ففي العراق وبعض مجتمعات الخليج العربي تُستعمل كثيراً كلمة «اشلونك» للسؤال عن حالات الآخرين. أمّا في المجتمع المصري، فكلمة «ازيّك» هي الكلمة المتداولة شعبياً في السؤال عن أحوال الناس. وفي المجتمع الجزائري يستعمل الناس كثيراً كلمة «إشراك» للاستفسار عن حال الآخرين.

واللّافت في معظم هذه العبارات الشفوية أنّها تبدأ بحرفَيْ «إش» اللذَين يعنيان «أيّ». فكلمة «إشلونك» تسأل عن لون الشخص الذي قد يكون علامة على صحّة جيّدة أو مرضٍ ما لدى الفرد. أمّا كلمة «إشزيك» فتشير إلى أنّ اللّباس/‏‏ الزيّ الذي يلبسه الفرد هو علامة ذات دلالة عالية على وضعه الاقتصادي بخاصّة. وتأتي الردود على البعض من تلك التحيّات والتساؤلات كالتالي: «زين» من العراق و(لا باس) من تونس أو «باهي» (من تونس وليبيا) و(كويس) من مصر و(طيّب) من أماكن أخرى في الوطن العربي.

الاهتمام الأوسع بالظاهرة: وكعالِم اجتماع اليوم أصبحتُ مهتمّاً بالعبارات المُشابهة أو القريبة من (إشلونك) التي تركّز على موضوع الصحّة لدى الناس. فعبارة «يعطيك العافية» المُتداوَلة كثيراً في السعودية وغيرها من مجتمعات الخليج العربي وعبارة «صحّة الحجامة» في المجتمع، والتي يُخاطَب بها الشخص بعد الحلاقة، شاهدتان على شغف الناس وكثرة استعمالاتهم لعبارات في المجتمعات العربية ذات علاقة بموضوع الصحّة. فمن منظور عِلم الاجتماع، يجوز القول إنّ تلك العبارات الكثيرة المتداوَلة يمكن أن تكون مؤشّراً على وضعيْن اثنَيْن بالنسبة إلى الحال الذي تتّصف به صحةُ الناس:

-وجود اهتمام كبير بين المواطنين العرب في المشرق والمغرب بالسلامة الصحّية ومن ثمّ العناية بها كثيراً ممّا يجعل ذكرها وارداً ومكرَّراً في كلام الناس من الخاصّة والعامّة على حدّ سواء. وبتعبير العلوم الاجتماعية الحديثة، أصبح ذكر الصحّة، وما له علاقة بها من قريب أو بعيد، مركزيّاً في خطاب/‏‏حديث أغلبية الناس.

- قد يكون الذكر الكثير لكلمة الصحّة في السؤال عنها أو الدعاء لها بالسلامة أثناء تفاعلات الناس مؤشّراً على أنّ صحّة الأفراد في المجتمعات العربية تشكو من مشكلات عديدة. ومن ثمّ، تأتي مشروعيّة الدّعاء إلى الناس بالصحّة الوافرة كما تشير إلى ذلك عبارة «يعطيك العافية» أو «الصَحَّة»، كما يقول التونسيون للشخص الذي خرج للتوّ من الاستحمام.

لكن، من ناحية أخرى، تفيد الكثير من المؤشّرات والسلوكيات في المجتمع وبين الأفراد، أنّ الاهتمام بموضوع الصحّة ليس أولويّة عند أغلب الشعوب العربية التي انتشر فيها تناول الغذاء غير السليم ممّا يُسمّى «الفاست فود»(الطعام السريع) وتفشّي التدخين لدى الشباب، كما تُشير الإحصائيات مثلاً في المجتمع التونسي. ومن هنا، فمركزية الذِّكر المكرَّر للصحّة في حديث المواطنين العرب قد تعود أساساً إلى أنّ صحّة الأفراد في المجتمعات العربية تشكو من مشكلات عديدة كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وهذا ليس بالغريب في المجتمع التونسي، على سبيل المثال. فظواهر انتشار البدانة ومرض السكري وضغط الدم في الوطن العربي هي بعضٌ من المؤشّرات على ما نقول. تونس وهَوَس الصحّة: يُفرط التونسيون والتونسيات في استعمال كلمة «الصحّة» في عبارات التخاطب مع بعضهم البعض في المناسبات الإيجابية التي يعيشها هؤلاء. كما ذكرنا، فهم يتمنّون الصحّة الجيدة لمَن استحمّ فيُقال له أو لها بعد الخروج من الحمّام: «صحّة». أمّا بعد الحلاقة، فيسمع الشخص من الذين حوله عبارة «صحّة الحجامة/‏‏ الحلاقة». وعندما ينجح التونسي أو التونسية في أمر غير مُنتظَر النجاح فيه يخاطبه/‏‏ها الآخرون بعبارة «صحّة عليك». ويُعبّر التونسيون والتونسيات عن امتنانهم وشكرهم لبعضهم البعض بعبارة «يَعْطيك الصحّة» أي شكراً كثيراً. لكنّ لعبارة «يعطيك الصحّة» معانٍ أخرى تفيد التالي: كلامك صحيح أو أنا موافق على ما تقول. كما يستعمل التونسيون والتونسيات كثيرا كلمة «يْعَيْشِكْ» التي هي مرادفة نوعاً ما لعبارة «يا طويل العمر» في الخليج العربي، لكنّها تعني في الاستعمال التونسي شكراً جزيلاً أو بارك الله فيك، المُتدَاوَلة كثيراً أيضاً في المجتمع التونسي.

* المقال بالتعاون مع مؤسّسة الفكر العربي.