روضة الصائم

علم المنطق: استدلال القرآن بالتجزئة

24 يونيو 2017
24 يونيو 2017

علي بن سالم الرواحي -

إن الدين الإسلامي دين فكر وعلم وعمل، متفتح على جميع العلوم البشرية المفيدة - ومن ذلك علم المنطق - جاء لعمارة الأرض وفق منهج سماوي مستقيم، يضمن السعادة للصالحين في الدارين.

كان الحديث سابقاً عن الاستدلال بالتشبيه والأمثال، واليوم عن الاستدلال بالتجزئة.

الاستدلال بالتجزئة هو تجزئة الاستدلال في المسألة الواحدة بحيث يكون كل جزء صالحا أن يكون دليلاً مستقلاً، ومن مجموع الاستدلال ينشأ دليل كلي على المستدل عليه، وبمعنى آخر هو استشهاد ينتقل من الجزئي إلى الكلي. المثال الأول، قال تعالى: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34)(الأنبياء)

هذا الكون الواسع بدقائقه وجلائله هو دلالة على وجود الله الخالق وعلى وحدانيته، فتستعرض هذه الآيات بعض الشواهد العقلية (العلمية) والحسية لخدمة هذه الدلالة اليقينية.

بدأت الآية بالمعقول وهو أن السموات والأرض كانت كتلة واحدة، ثم تجزأت بقدرة الله تعالى، فصار بعضها أرض وبعضها سموات، وهذا ما توصّل إليه العلم الحديث تحت نظرية الانفجار الكوني العظيم، تبع ذلك الاستدلال بأن الماء هو عنصر الحياة، ومما أُثْبِت علمياً أن ثلاثة أرباع الإنسان مكون من الماء، ولا حياة أرضية تجوز بلا ماء، ثم انتقل إلى الاستدلال بالجبال التي ترسي الأرض عن الاهتزاز، ثم انتقل إلى الاستدلال بالطرق السالكة بين أجزاء الأرض، ثم انتقل إلى الاستدلال بحفظ السماء من التشقق والانفطار وحفظها من الشياطين الذين كانوا يسترقون السمع. نرى أن كل جزء وحده دال على وحدانية الله وفيه الكفاية، ومجموعة هذه الجزئيات تعطينا الصورة الواضحة والمكتملة للدليل الكلي على وحدانية الخالق جل جلاله، و لو استقرأنا هذه الأدلة الكونية كلها، لقادتنا إلى نفس النتيجة.

المثال الثاني، قال تعالى:(مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)(نوح)، وكل آية متجزئة عن هذه الآيات تدل على وحدانية الله سبحانه وتعالى، فالله خلقنا أطواراً بداية من أطوار الجنين ثم طور الطفولة ثم طور الشباب ثم طور الشيخوخة، كما خلق الله السموات متطابقة بعضها فوق بعض، بلا عمد، وبلا فطور، أو تشقق، ثم وضع فيها القمر ينير للناس وقت الليل، ووضع فيها الشمس تضيء للناس في النهار، ولولا الشمس والقمر لتعذرت الحياة على الأرض، والله خلقنا من الأرض، وأنشأنا من طعام وشراب الأرض، ثم إليها نعود، ومنها نبعث، والله جعل الأرض منبسطة سهلة للحركة وللعيش فيها وابتغاء الرزق منها. المثال الثالث: قال تعالى:(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)(النمل)، فكل آية دليل على الله الواحد، دون شك، وبتتبع مجموع الآيات نصل إلى الحكم الكلي وهو أن الله خالق كل شيء وهو الإله الواحد لهذا الكون. وتقرير ذلك أن الله هو الخالق الواحد بلا شك وبإجماع الناس، إذاً هل يجوز أن يكون غير الخالق معبوداً أو شريكاً لله في العبادة، والجواب لا، لأن الرب هو الإله، والأصنام مربوبة ليست ربا، فكيف تُعبد من دون الله. وبالإضافة إلى الدليل العقلي في الآيات ورد فيها أيضاً الدليل النقلي في قوله (قل هاتوا برهانكم) أي دليلكم سواء أكان عقلياً أم نقلياً.

وسوف نتكلم في الحلقة المقبلة عن استدلال القرآن بالتعميم ثم بالتخصيص، واستدلاله بالتعريف.

والله ولي التوفيق.