روضة الصائم

فيما للقاضي وما عليه «12»

16 يونيو 2017
16 يونيو 2017

زهران بن ناصر البراشدي - القاضي بالمحكمة العليا بمسقط -

وفي رزق القاضي فإنه من المعلوم ضرورة أن من عاش في هذه الحياة من بني آدم لا بد له من عدة أشياء منها: السكن الملائم والطعام والشراب والكساء والتطبيب، إلى غير ذلك من سائر ضروريات الحياة، وهذه الضروريات لابد من اكتسابها والسعي لتوفيرها، والإنسان ملزم بذلك له ولمن يلزمه عوله، وإذ كان القاضي من جملة بني البشر فلا بد له من ذلك؛ وقد سبق الكلام أن على القاضي أن يفرغ نفسه لهذه المهمة العظيمة، وأن لا يأتي لمجلس الحكم إلا وهو صافي الذهن فارغ البال من سائر مشاغل الحياة.

والسؤال الذي يفرض نفسه: من أين مصدر رزقه الذي يوفر له سبيل العيش الكريم؟ ومن المسؤول عن ذلك؟ والجواب الذي لا يقبل الجدل: أن رزق القاضي في بيت مال المسلمين، وينبغي أن يعطى كل ما يحتاج إليه ويوفر له ولمن يلزمه عوله الراحة والطمأنينة وهدوء البال؛ لأنه أدعى للعدالة وأبعد له عن الشبهة والحيف؛ كي لا يحتاج إلى غيره من بني جنسه، فتكون حاجته سببا لضعفه وجوره، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرض للعمال من بيت مال المسلمين ما يراه كافيا لهم، وكذا خلفاؤه الراشدون رضي الله عنهم.

فعن شريح رحمه الله: ومالي لا أرتزق أستوفي منهم وأوفيهم أصبر لهم نفسي في المجلس وأعدل بينهم في القضاء.

وكان رحمه الله يأخذ كفايته من بيت المال، على ما روي أن عمر رضي الله عنه كان يرزقه مائة درهم على القضاء فزاده علي رضي الله عنه؛ وذلك لكثرة عياله حتى جعل له في كل شهر خمسمائة درهم ولعله عاتبه بعض أصدقائه على أخذ الأجر، وقال له: احتسب، فقال شريح في جوابه ما قال ومراده إني فرغت نفسي عن أشغالي لعمل المسلمين فآخذ كفايتي من مال المسلمين .. والأصل في ذلك من كتاب الله قوله عز وجل في عمل الوصي في مال اليتيم «وَمَنْ كَانَ غَنِيّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ» النساء، وقوله في حق جباة الزكاة: «وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا» التوبة/‏‏ فإنهم لما فرغوا أنفسهم للعمل في سبيل المسلمين استحقوا الكفاية في بيت المال.

فدل الكتاب والسنة والإجماع وعمل الأمة على إعطاء القاضي كفايته من بيت مال المسلمين، وفي ذلك دليل أن عطاء القاضي لا يقدر بشيء معين؛ لأنه ليس بأجر في الأصل وإنما سد لحاجته وحاجة من يلزمه عوله، وعلى حسب الزمان والمكان وغلاء السعر ورخصه. وللإمام الخليلي رضي الله عنه بصمات واضحة في رزق القاضي ومستحقاته في بيت المال، ففي جوابه لقاضيه العلامة سيف بن حماد الخروصي ما نصه: «... وأما إن كان مطمح النظر لاستحقاقكم، فألف القرش حقيرة، ليست عن رد شكاية، ولكن اجعلوا ذلك لله..».

ذلك لأن القضاء بالحق من أقوى الفرائض بعد الإيمان بالله تعالى، وهو من أشرف العبادات لأجله أثبت الله تعالى لآدم عليه السلام اسم الخلافة فقال جل جلاله «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة»، وأثبت ذلك لداود «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة فِي الْأَرْضِ» ص،‏ وبه أمر كل نبي مرسل حتى خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى «إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ» التوبة.

وقال الله تعالى: «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ» التوبة/‏‏ وهذا لأن في القضاء بالحق إظهار العدل وبالعدل قامت السموات والأرض ورفع الظلم وهو ما يدعو إليه عقل كل عاقل، وإنصاف المظلوم من الظالم واتصال الحق إلى المستحق وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، ولأجله بعث الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم، و به اشتغل الخلفاء الراشدون والأئمة المهتدون رضوان الله عليهم.

وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة..» وقد تقدم.