روضة الصائم

كانوا يعرضونها على رسول الله

09 يونيو 2017
09 يونيو 2017

د. سعيد بن سليمان الوائلي -

عضو هيئة التدريس بكلية العلوم الشريعة -

أيها المتابع الكريم، إن حرص الصحابة الكرام على تعلم معاني القرآن الكريم كان ظاهرا بصورة جلية، وقد ورد ما يدل على ذلك ويؤكده في عدة آثار، منها: عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إِذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ، لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرَفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ».

وجاء عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: «حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِؤُنَنَا أَنَّهُمْ كَانُوا يُسْتَقْرَئُونَ مِنَ النَّبِيِّ فَكَانُوا إِذَا تَعَلَّمُوا عَشْرَ آيَاتٍ، لَمْ يُخْلِفُوهَا حَتَّى يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا مِنَ الْعَمَلِ، فَتَعَلَّمْنَا القرآن وَالْعَمَلَ جَمِيعًا».

وهم في ذلك يضربون لنا أروع الأمثلة في حمل المعنى من النص وتطبيقه في أرض الواقع، فلم تكن عندهم مادة علمية منفصلة عن واقعهم العملي، ولم يكن علمهم بها لنوايا مغرضة أو مقاصد دنيوية فارغة، بل حققوها في حياتهم بما يلحظه كل متأمل في حالهم.

أما ما وقع من الصحابة باجتهادهم من تفسيرات في العصر النبوي الزاهر فإنهم كانوا يعرضونها على رسول الله ، وبعد ذلك لا يخلو الحال من أمرين:

الأول: أن يستدرك عليهم فهمهم الذي فهموه، ويبين لهم المعنى المراد من نص القرآن، ومن ذلك:

ما روي عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ» (البقرة: 187) مِنَ الْفَجْرِ قَالَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي أَجْعَلُ تَحْتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْنِ: عِقَالًا أَبْيَضَ وَعِقَالًا أَسْوَدَ، أَعْرِفُ اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : «إِنَّ وِسَادَتَكَ لَعَرِيضٌ، إِنَّمَا هُوَ سَوَادُ اللَّيْلِ، وَبَيَاضُ النَّهَارِ».

فالرسول لم يمنع عديًّا من أن يفهم القرآن على ما عنده من معرفة اللسان العربي؛ لأن فهمه من جهة اللغة صحيح، لكنه بيّن له المعنى اللغوي الآخر الذي غفل عنه عديٌّ، وهو بياض النهار وسواد الليل، ولو كان فهم القرآن ابتداءً غير جائز لهم لنبههم على ذلك، وبناء على أن ذلك لم يرد مع تكرر الوقائع المشابهة لأمر عديٍّ رضي الله عنه، فإن هذا يدل على جواز فعلهم.

الثاني: أن يقرَّ عليهم فهمهم، ويوافق على معنى تفسيرهم، ومن ذلك:

ما روي عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ عَامَ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، قَالَ: فَاحْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إِنْ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: « يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟ « قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، فَأَشْفَقْتُ إِنْ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ، وَذَكَرْتُ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (النساء: 29) فَتَيَمَّمْتُ، ثُمَّ صَلَّيْتُ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.

وكذلك نلحظ أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحذر ابن العاص ولا غيره من ذلك ولم ينبهه على عدم جوازه لو قدر أنه لا يجوز.

وبما أن تلك التفسيرات الواردة عن الصحابة معتمدة على الرأي، وإن كانوا يرجعون إلى النبي في حياته، إلا أن هذا يمكننا من القول بأن بداية التفسير بالرأي كانت من الصحابة الكرام في عهد النبي ، وليس المراد بالرأي هنا الرأي المذموم، وإنما التفسير بالرأي المحمود الجائز.. فيكون تفسيرا بالرأي في أول الأمر، ثم ينقلب إلى أثر مروي عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، بعد استدراكه أو إقراره على المعنى الصحيح.

وإذا كان هذا التفسير في صورة حديث ومرويات تنقلها الرواة، فإنه لا بد من ملاحظة أنه يعطى حكم الحديث، بمعنى أنه يرجع إلى إثباته ونفيه إلى علم الحديث ومصطلحه، لمعرفة صحة الحديث من عدم صحته، من أجل ذلك لا بد من تمحيص الروايات والنظر في أسانيدها؛ لتمييز الصحيح من غيره، وغالب ما أثر من مرويات في تفسير القرآن مقطوع الأسانيد، ولذلك قال من قال من علماء المسلمين: ثلاث ليس لها أصول التفسير والمغازي والملاحم، ويقصد بذلك غالب المأثور من هذه الثلاث، لأنه قد ثبتت روايات صحيحة في بيان بعض الآيات.