روضة الصائم

فقه الهوية والخصوصية والانفصال في الأزمنة الحديثة

04 يونيو 2017
04 يونيو 2017

د. إبراهيم البيومي غانم -

ملخص بحث قدم بندوة تطور العلوم الفقهية بمسقط -

الهوية هي ما يشخص الذات. وهي بحسب ابن سينا: «معرفة الذات بالذات». والإقرار بمبدأ الهوية بالمعنى الوجودي العيني لها نرتبط بالمادة والتاريخ والمجتمع. ومثل هذا الإقرار يعني بالضرورة الإقرار بمبدأ الكثرة والتنوع والتعددية في متن الوجود. وليبرهن في الوقت عينه على وحدانية الخالق سبحانه. ولا معنى للهوية بمعزل عن الأنا والآخر. فالهوية هي - بحسب الجرجاني هذه المرة - « صفة الشيء من حيث امتيازه في تشخصه عن الأغيار». وعليه نستنتج أنه لا وعي بالهوية الذاتية دون وعي بهوية الآخر. مسألة الهوية ليست من مسائل المجتمعات الحديثة ولا حتى الدول القومية الحديثة وإن كانت مشكلة الهُوِيَّة - وما يرتبط بها من ضرورة تحديد أسس الانتماء والولاء التي تنظم علاقة الفرد بالدولة- قد مثلت جزءًا أساسيًّا من بنية الفكر السياسي الحديث والمعاصر في العالم برمته، وفي العالم الإسلامي عامة، وفي العالم العربي بوجه خاص. وقد كان منَاخ الجدل والصراع الفكري الذي عاشه عالمنا الإسلامي من أواخر العشرينات إلى أواخر الأربعينات دافعاً لتقديم اجتهادات حول الهُوِيَّة وإطار الجامعة السياسية للدولة الوطنية التي لاح في الأفق آنذاك أنها هي التي سترث الدولة العثمانية في عديد من ولاياتها السابقة.

وقد تعددت الاتجاهات الفكرية والسياسية المتجادلة حول الهوية. وكان جدالها في جانب منه تجسيداً للانقسام الأساسي في صفوف النخبة الفكرية /‏‏ السياسية، بين عقلية تستلهم الإسلام وثرواته وتصدر عنه، وأخرى تستلهم الغرب وحضاراته الحديثة وتصدر عنه. وفي غمار المجادلات حول الهوية ظهر بين الاتجاهات المتجادلة تعارض بين الانتماء التاريخي العَقَدي (لدار الإسلام) وبين الولاء المفترض للوطن المحلي المحدود. وبين الارتباط بالجماعة أو الأمة الإسلامية وبين التبعية لأرض محدودة في إطار الدولة الوطنية /‏‏ القومية الجديدة. وفي تلك الفترة التي تعود إلى أوائل القرن العشرين؛ كانت «المفهومات» الأساسية المتداولة للتعبير عن الهُوِيَّة هي: «الوطنية» أو (القومية) أو (الإسلامية). ودون الدخول في تفاصيل نشأة كل منها وتطوره في التاريخ الحديث للعالم الإسلامي؛ فقد تعين على كل اتجاه فكري /‏‏ سياسي أن يربط رؤيته لمسألة الهُوِيَّة بتصوره للدولة الحديثة التي ينشدها، ومن ثم بتصوره للنهضة وسبيل تحقيقها. فهُوِيَّة الدولة التي كان يتصورها وسعى لتحقيقها الفكر التغريبي العلماني، بصفة عامة، هي الدول الوطنية (القومية) المتحيزة عرقياً وجغرافياً وثقافياً، أما الدولة التي كان ينشدها الفقه الإسلامي فهي «الدولة الإسلامية» المنفتحة على مختلف الأعراق والقوميات والثقافات والتقاليد. وإضافة إلى ما سبق، فإن طبيعة رابطة الولاء وحدود الجامعة السياسية اختلفت من نموذج لآخر حسب تصور كل اتجاه فكري سياسي. وتباينت أيضاً بحسب إدراك كل اتجاه لمشكلة الهُوِيَّة وصلتها بالتصور الأساسي للدولة من ناحية، وفي سياق منَاخ الجدل الفكري والصراع السياسي الذي شارك جميع الفرقاء فيه بصورة مباشرة منذ أواخر العشرينات إلى اليوم وإن كان بدرجات مختلفة من القوة والضعف من ناحية أخرى.

يستبطن الفقه السياسي الإسلامي الحديث على الدوام فكرة أساسية قوامها أن البشرية ستتجمع في صيغة وحدة عالمية تحكمها مبادئ الإسلام وقيمه، وأن الوصول إلى تلك العالمية أو الإنسانية هو الهدف الأسمى.. وختام الحلقات في سلسلة الإصلاح الممكن في عالم الإنسانية. وقد انتهينا في بحثنا هذا إلى أن مجتهدي الفقه السياسي الإسلامي الحديث قد استوعبوا في اجتهاداتهم «دوائر الهوية» جميعها: الوطنية، والقومية، والإسلامية، والإنسانية. وأكدوا على أنها متواصلة غير متمانعة.