أفكار وآراء

الممكن والمستحيل في المواجهة الأمريكية الكورية الشمالية

21 مايو 2017
21 مايو 2017

جمال إمام -

ربما تنفس العالم الصعداء مع أول إشارة سياسية ودبلوماسية بعثت بها الولايات المتحدة عبر مفاجأة أطلقها الرئيس ترامب تحدث فيها عن إمكانية لقاء زعيم كوريا الشمالية.

والواقع أن الأزمة على الجانبين قد بلغت الذروة واقتربت بشدة من حافة الهاوية، وكان من الضروري أن تستخدم الولايات المتحدة أوراقًا جديدةً في إدارتها للأزمة بما تمتلكه من خبرات واسعة وبدائل تفوق إمكانيات كوريا الشمالية التي ليس لديها سلة خيارات كما عند الولايات المتحدة.

وإذا كانت هناك حالة اندهاش لدى العالم من المفاجأة بعد أسابيع من الحرب الكلامية والمناورات العسكرية فإن الأمر يختلف كثيرًا عند الولايات المتحدة التي تحولت ببراعة من حالة التصعيد إلى استخدام بعض من أدواتها الناعمة لترويض كوريا الشمالية التي لا شك أنها اختلط عليها الأمر.. بل إن الولايات المتحدة قد وضعتها بالفعل تحت ضغط كبير وهي وإن استجابت، وأتوقع أنه سيكون من الأمر المثير بالنسبة لها أن تتجاهل مثل هذه الدعوة الملغومة من الولايات المتحدة.. فإنها ستكون قد رضخت للشروط الأمريكية التي حددتها في عبارة «في الظروف المناسبة» التي تعني القواعد الخاصة بتسوية الأزمة وبناء علاقات وفق الرؤية الأمريكية على الأرجح .

ما الذي ينبغي علينا الاهتمام به في العرض الأمريكي بلقاء ترامب /‏‏ جونغ أون وما هي القواعد الجديدة التي تقوم عليها إدارة الأزمة الأمريكية الكورية الشمالية وهل من ثمة أرباح يمكن أن تجنيها الأخيرة من تسوية الأزمة.

ثم ما هي المكافأة التي ستحصل عليها الصين التي تعمل خلف الكواليس في الضغط على بيونج يانج وربما (وهو مؤكد ) ترتيب اللقاء الذي يمكن أن يكون بمثابة نجاحا مبهرا للرئيس ترامب في إعادة رسم خريطة شبه الجزيرة الكورية ومنطقة جنوب شرق آسيا وهي واحدة من أكثر المناطق الجيوسياسية أهمية في العالم.. في النقطة الأولى.. أن الولايات المتحدة أرسلت خلال الأسابيع الأولى لاندلاع أزمة الصواريخ البالستية الكورية الشمالية وتجاربها النووية بأقوى رسالة عندما حركت قوتها الضاربة، وهي مجموعة كارل فينسون الهجومية التي تضم حاملة طائرات ومدمرتين ضمن الأسطول الثالث في المحيط الهادي صوب السواحل الكورية .. وهي الرسالة التي أظهرت خلالها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عزمها على ردع كوريا الشمالية، وهو ما يعني أن المعالجة الأمريكية لما وصفته باستفزازات كوريا الشمالية في عهد الرئيس ترامب تختلف كلية عما كانت عليه في عهد سلفه أوباما .. وهو ما أعلنته الولايات المتحدة صراحة عن استعدادها لتسوية مشكلة برنامجي كوريا الشمالية النووي والباليستي «وحدها» إذا لم تتحرك بكين لضبط جارتها. ثم أن توقيت التحرك الأمريكي العسكري الذي تزامن مع احتفالات كوريا الشمالية بالذكرى الـ105 لميلاد زعيمها ومؤسسها كيم إيل سونج يعطي إشارة قوية على عزم الولايات المتحدة تغيير قواعد التعامل مع تطورات البرنامج الباليستي والنووي لكوريا الشمالية.. وبالتالي فإن التطمينات الأمريكية لحلفائها في اليابان وكوريا الجنوبية باتت أقرب إلى الواقع ليس فقط من خلال تحريك الولايات المتحدة لأسطولها البحري للعمل في غرب المحيط الهادي وهي خطوة مشابهة لما اتخذته الولايات المتحدة مع التحركات الصينية قبل سنوات في مياه بحر الصين، ولكن أيضا من خلال تحرك سياسي على الأرض من خلال جولة مايك بينس نائب الرئيس الأمريكي الآسيوية (وشملت اليابان وإندونسيا وأستراليا) .. والتي بدأها بزيارة كوريا الجنوبية أقرب الأهداف العسكرية التي يمكن أن تتعرض لهجوم صاروخي من بيون يانج، وذلك بهدف إظهار التزام الولايات المتحدة بأمن حلفائها، وتنبيه خصومها إلى أن إدارة الرئيس دونالد ترامب لا تدير ظهرها لمنطقة تزداد اضطرابًا.. في النقطة الثانية.. أن كوريا الشمالية اعتمدت بشكل كبير على صراع الإرادات خلال إدارتها للأزمة واعتمدت بشكل مباشر في ذلك على ما يمكن اعتباره سياسة الردع عن بعد وفي هذا الاتجاه فإنها وجهت سلسلة من الرسائل المباشرة والصريحة..

ارتكزت فيها وبالدرجة الأولى على مخاوف الجانب الآخر، خاصة لدى كوريا الجنوبية واليابان من قوة الردع العسكرية الكورية الشمالية ،التي حققت لها على الأقل أحد أهم مكاسبها السياسية في تراجع حدة التهديد العسكري الأمريكي لصالح الدبلوماسية والسياسة من خلال العرض الأمريكي بلقاء ترامب /‏‏ يونج المحتمل والمشروط . فقد أعلنت كوريا الشمالية أنها ستحول في غضون دقائق قليلة القواعد العسكرية الأمريكية في كوريا الجنوبية واليابان وحتى داخل الولايات المتحدة نفسها فضلا عن مقر الرئاسة الكورية الجنوبية المعروف «بالبيت الأزرق» إلى رماد، على حد تهديدها . وهي بذلك لن تنتظر حاملة الطائرات الأمريكية «كارل وينسون» أن تطيح بما وصفته بيونج يانج بهيبة الزعيم كيم يونغ أون.

والواقع أن موقف كوريا الشمالية المتمثل في التهديد بالرد العسكري يهدف بالدرجة الأولى إلى إظهار عدم التراجع أمام ما وصفته بالتهديدات الأمريكية والذي يمكن أن يكون بمثابة إذلال لبيونج يانج التي دأبت على تحدي الولايات المتحدة في مرات عدة، خرجت منها وكأنها منتصرة سياسيا أو هكذا خيل إليها، أوعلى الأقل منتشية بموقفها الحالي حتى اللحظة وبعد العرض الأمريكي الأخير..

ومع ذلك فإن كوريا الشمالية فاتها وفق هذا السيناريو الذي نجحت فيه حتى الآن، أن الولايات المتحدة لديها خيارات أخرى تدعم رغبتها في الحوار السياسي على غرار ما قامت به وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت مطلع الألفية الثانية من خلال زيارة لكوريا الشمالية ولقاء والد الرئيس الحالي كيم جونج بعد قطيعة استمرت لما يزيد عن 50 عاما..

وهي مع هذه الخيارات الأخرى لا يمكن أن تستبعد بشكل تام توجيه ضربة ساحقة ماحقة لكوريا الشمالية في كل الاتجاهات برًا وبحرًا وجوًا تشمل كافة الأهداف الاستراتيجية والحيوية التي ستصبح في خبر كان وفي مقدمتها المنشآت النووية وان كان ذلك يظل خيارًا شبه مستحيل. والواقع أن هذه هي الصورة التي يمكن أن يكون عليها السيناريو المرعب للمواجهة المؤجلة التي تتأرجح على وقع طبول حرب ليست على غرار مثيلاتها التي تقرع في مناطق متفرقة من العالم.. في النقطة الثالثة.. بروز الصين كلاعب رئيسي وبارز في الأزمة الكورية الشمالية /‏‏ الأمريكية الذي وأتته فرصة ذهبية لا يمكن تعويضها لترتيب وتسوية وإعادة صياغة العلاقات الصينية الأمريكية مع إدارة أمريكية جديدة مختلفة بالمرة عن إدارة الرئيس السابق أوباما.. فالصين تدرك تماما أن الإدارة الأمريكية الجديدة تعيد النظر في كثير من الملفات الصينية التي تشكل أجندة سياسية واقتصادية قرر الرئيس ترامب إعادة فتحها وكانت جزءًا من برنامجه الانتخابي.. خاصة فيما يتصل بالعملة الصينية التي تؤثر على ميزان المدفوعات لصالح الصين خصما من المصالح الاقتصادية الأمريكية..

وبالتالي فإن التدخل الصيني في تسوية أزمة الصواريخ الكورية الشمالية وتجاربها النووية مهم جدًا بالنسبة لها.. فهي من ناحية ستتجنب التداعيات السلبية التي يمكن أن تترتب على اندلاع حرب في شبه الجزيرة الكورية خاصة فيما يتصل بتدفق اللاجئين الكوريين، وما يسببه لها من ضغوط اقتصادية. كما أن الوضع الناجم عن الحرب يمكن أن يؤثر بقوة على وضعها الاقتصادي، وقد يجرها إلى مواقف سياسية أو عسكرية لا ترغب فيها ولا مستعدة لها، كما أن جزءًا من العائدات السياسية لتسوية الأزمة سيكون بمثابة رصيد في العلاقات الصينية الأمريكية يساهم كثيرًا في تسوية وتنقية الأجواء في هذه العلاقات مستقبلًا..

وبالتالي فإن الصين تقدم حزمة حوافز جيدة لكوريا الشمالية لتساعدها على وقف برنامجها النووي منها وعود بمساعدات تصل إلى خمسين مليار دولار لإعادة تطوير اقتصاد كوريا الشمالية ووعود سياسية أيضا بمساعدتها في الاندماج في المجتمع الدولي وكسر العزلة الدولية التي تعاني منها.. في الوقت الذي تهدد فيه بفرض عقوبات اقتصادية عليها نتيجة عدم التزامها بوقف التجارب ومنها وقف استيراد الفحم والتهديد بمزيد من العقوبات. والواقع أن هذا النهج الصيني يلقى قبولًا وتشجيعًا أمريكيًا حيث ترى واشنطن أن كوريا الشمالية باتت عبئا استراتيجيا على الصين وهي ترغب بشدة في الاستعانة ببكين لاحتواء بيونغ يانج..

وفي هذا الإطار فإن الرئيس ترامب أعاد إحياء أداة قديمة من أدوات الدبلوماسية هي دبلوماسية ربط قضية بقضية وملف كوريا الشمالية الآن ربما يكون ورقة مساومة في مفاوضات على قضايا أخرى مع الصين خاصة في ظل التوتر الذي خلفته تصريحاته الناقدة لسياسات بكين الاقتصادية.