أفكار وآراء

التصنيف القانوني لجريمة غسل الأموال

10 مايو 2017
10 مايو 2017

د. عبد القادر ورسمه غالب -

Email: [email protected] -

بصفة عامة فإن جريمة غسل الأموال تعتبر من الجرائم الحديثة التي انتشرت في الآونة الأخيرة عبر فئة معينة من أولئك المجرمين الذين يعرفون جوازا بمجرمي الياقة البيضاء أو عبر منظمات الإجرام الجماعي، وتتعدد الأشكال والطرق والجريمة واحدة تنخر في اقتصاد الدول وتهدد النمو الآمن والرفاهية للمجتمعات. ومع تطور الزمن وتطور الجريمة، تطورت التشريعات التي تكافح هذه الجريمة الوبائية التي تدخل كل دولة دون استئذان لتنفيذ مراميها لغسل المتحصلات “القذرة” وتلويث الأجواء في ومن حواليها. وكلما ازدهرت الجريمة وانتشى المجرمون بنتائجها كلما زادت وتعمقت آثارها السلبية في المجتمع مما يؤدي بالتالي إلى صعوبة اجتثاث وجودها لأنها تجذرت وتعمقت وانتشرت في كل الأطراف.

في بداية الأمر وعند ظهور هذه الجريمة الخطيرة، كانت التشريعات الخاصة بمكافحة جريمة غسل الأموال وتوابعها، تقوم بتحديد خاص لتلك الجرائم التي يأتي من صلبها “المتحصلات” المالية المخالفة للقانون وغير الشرعية. ومن هذا التحديد التشريعي، فإن جريمة غسل الأموال كانت لا تتم أو تنشأ إلا بارتكاب الجرائم التي يحصرها ويحددها التشريع. وبسبب هذا النمط الفكري ظلت هذه التشريعات تتبارى في ذكر الجرائم التي تعتبر “المتحصلات” الناتجة منها “قذرة” وغير شرعية، وبالتالي فإن العمل على تنظيفها لنقلها لمرحلة الشرعية يعتبر جريمة “غسل أموال”.

وخير مثال للتشريعات التي تحصر تلك الجرائم التي تأتي منها “المتحصلات” الإجرامية، نشير بصفة خاصة إلى النظام السعودي الصادر من مؤسسة النقد العربي السعودي “ساما”. وبموجب نظام “ساما” فإنها كانت تصنف الجرائم التي تشكل متحصلاتها جريمة غسل الأموال وكانت هذه الجرائم لا تتعدى عشرة (10) أنواع من الجرائم. ولكن في الفترة الأخيرة وصل التصنيف إلى خمسة وعشرين (25) نوعا من الجرائم التي تعتبر متحصلاتها مصدرا لجرائم غسل الأموال. ومن أبرز هذه الجرائم، والتي تعتبر مصادر غير تقليدية وجديدة، نذكر تقليد السلع، التستر التجاري، الغش في الأسعار، التهرب الجمركي والضريبي، وغيره من الجرائم المتعلقة بالأنشطة التجارية كالغش في الأصناف والأوزان والأسعار، الرشوة، التزييف، التزوير، القرصنة والابتزاز، الاختطاف وحجز الرهائن، الدعارة وممارسة الفجور والاستغلال الجنسي، السطو المسلح والسلب، النصب والاحتيال، جرائم البيئة، اختلاس الأموال العامة والخاصة، السرقة، ممارسة الوساطة في أعمال الأوراق المالية دون ترخيص أو الإهمال في أعمال الوساطة في عدم التبليغ عن العمليات المشبوهة لغسل الأموال، مزاولة الأعمال المصرفية بطريقة غير مشروعة أو الإهمال في التبليغ عن العمليات المشبوهة لغسل الأموال، تمويل الإرهاب، تهريب الأسلحة والذخائر والمتفجرات أو تصنيعها أو الاتجار بها، تهريب الخمور والمسكرات أو تصنيعها أو المتاجرة بها أو ترويجها... بل إن التبرع بـ “الهللات” المتبقية من حساب السلع التي يشتريها المستهلكون من متاجر المواد الغذائية تندرج ضمن مؤشرات الشبهة لغسل الأموال... وهكذا توسع التشريع وأيضا سيتوسع في المستقبل، اذا ظللنا على هذا النمط .

وأيضا سار على هذا النهج الكثير من الدول التي أصبحت تتسارع مع الزمن في تعديل تشريعاتها من حين لآخر لزيادة قائمة جرائم جديدة تعتبر متحصلاتها من جرائم غسل الأموال. ويتم زيادة قوائم الجرائم، لأنه بدون هذه الجرائم واثباتها لا يمكن محاربة مجرمي الجريمة أو غاسلي الأموال لعدم وجود الجريمة في الأساس وبالتالي لا توجد متحصلات قذرة وغير مشروعة وبالتالي لا يوجد غسل أموال، أو حتى لو وجد غسل الأموال فإنه لا يعاقب لأن جريمته غير مذكورة في التشريع. ولكن، وكما يبدو، فإن مثل هذا السباق المحموم لتوسيع قاعدة الجرائم سيستمر إلى ما لا نهاية لأن هذا المجرم الخاص في كل يوم سيكتشف سبلا وطرقا جديدة لارتكاب جريمة غسل الأموال مع متعة التلذذ في تحويل الأموال القذرة إلى أموال نظيفة شرعية تدور في دائرة الاقتصاد الشرعي وعلى رؤوس الأشهاد.

لهذا بدأت بل جنحت العديد من التشريعات، في الآونة الأخيرة، نحو التوجه الى عدم ذكر أو حصر الجرائم التي تشكل متحصلاتها جريمة غسل الأموال. وبمقتضى هذا التوجه الحديث للتشريعات، الذي تبنته في البداية المحاكم الانجليزية ووجهت باتباعه، ستكون مكافحة غسل الأموال أكثر فعالية ولا تحدها أي حدود لابتعادها عن حصر قائمة معينة للجرائم. ولتحقيق هذا التوجه، فإن تشريعات مكافحة غسل الأموال يجب ألا تدخل في تحديد وذكر تفاصيل أنواع الجرائم التي تعتبر متحصلاتها تشكل جريمة غسل الأموال. ولهذا يكتفي بالنص على أن متحصلات أي جريمة، ومهما كانت هذه الجريمة، فإنها تعتبر متحصلات جريمة غسل أموال.

وبهذه الكيفية الحديثة فان متحصلات أي جريمة وبدون حصر أو “قوائم” تعتبر، ومهما كانت، تشكل جريمة غسل أموال خاصة عندما يبدأ المجرم تنظيفها عبر أي من المراحل الأساسية لغسل الأموال والتي تتطور في العادة من مرحلة الإحلال عبر الإيداع في البنوك مثلا، إلى مرحلة التغطية والتمويه ثم إلى مرحلة الدمج والاندماج في النظام الاقتصادي المالي النظيف والشرعي... وبهذا التوسع في التشريع فإن متحصلات كل الجرائم تقع تحت طائلة المساءلة عن غسل الأموال، ولا يمكن لأي غاسل للأموال أن يهرب بجريرته فقط لأن الجريمة التي ارتكبها ليست من ضمن قائمة الجرائم التي تعامل متحصلاتها كجريمة غسل أموال.. ومن شمولية التشريع وعدم تحديده للجرائم سيتم إحكام وتوسيع المكافحة في مواجهة جريمة غسل الأموال ومرتكبيها، وهذا قطعا سيؤدي إلى انكماشها حتى الضمور.. وهو الهدف المقصود لتفعيل وتوسيع المكافحة حتى الاجتثاث. وهذا، في نظرنا، طموح مشروع نأمل أن يتم اتباعه في كل الدول لأن هذه الجريمة تهدد العالم في كل مكان وفي كل وقت وكل زمان.