Untitled-1
Untitled-1
المنوعات

أحمد الفلاحي يروي تاريخ مجـلة الغـــدير

08 مايو 2017
08 مايو 2017

صدرت الغدير أول ما صدرت كنشرة شهرية تطبع بالإستنسل وكان أول عدد صدر منها في ديسمبر سنة 1977 واستمرت تصدر بالاسنتسل أحد عشر عددا، وفي العدد الثاني عشر تحولت من نشرة بالاستنسل إلى مجلة تطبع في المطبعة وقد صدر ذلك العدد المتمم لسنتها الأولى والمنتقل بها من الاستنسل إلى الطباعة في نوفمبر سنة 1978 ومنذ ذلك الشهر استمرت كمجلة لمدة خمس سنوات وستة أشهر دون توقف سوى لمدة شهرين في سنتها الخامسة بقرار جبري من وزارة الإعلام اثر مقال عن غزو إسرائيل للبنان واحتلالها لبيروت رأت فيه الرقابة تجاوزا من المجلة لتصريح إصدارها فمنعت ذلك العدد وصادرته وكان عدد شهر أغسطس 1982 و أوقفتها شهري سبتمبر وأكتوبر وفي نوفمبر استأنفت الصدور بعد انتهاء فترة الإيقاف واستمرت حتى شهر يوليو من عام 1984م حين صدر قرار الوزارة بوقفها نهائيا والسبب الرئيسي للإغلاق الدائم ضمن أسباب أخرى صدور قانون المطبوعات والنشر الجديد ذلك العام وفيه اشتراطات لإصدار الصحف والمجلات لم تكن موجودة من قبل من بينها ضرورة ضمان بنكي بمبلغ كبير استحال على الغدير إمكانية توفره.

وقد سلكت الغدير في بداية صدورها مسلك مجلة «الثقافة الجديدة» التي تصدر عن «النادي الوطني الثقافي» وتوقفت في ذلك الوقت وكان صدورها في بدايته بـ«الاستنسل» ثم تحولت إلى الطباعة فكأن الغدير اقتفت أثرها مع سعي لتغيير المسار والأخذ برؤية مختلفة بعض الشيء ولم يكن لمؤسسي «الغدير» أي معرفة بصناعة الصحافة سوى ارتباطهم القوي بقراءة المجلات العربية التي كانت تصدر يومئذ في العواصم العربية على مختلف توجهاتها وبالأخص الثقافية منها حيث كانوا مغرمين بها ومدمنين قراءتها وفي مقدمتها مجلة «العربي» الكويتية الشهرية التي كانت متابعتها أشبه بفرض واجب لديهم لا يصح إهماله ناظرين إليها بكونها المثال الذي يجب احتذاؤه شأنهم في ذلك شأن الشباب العربي وقتذاك وكانت واضحة محاولة تقليدهم حين وضعوا خطة تقسيم الأبواب الرئيسية للمجلة من حيث محاكاتها إلى حد كبير تقسيمات تلك المجلات الكبرى التي تأثروا بها من الافتتاحية ومقال الشهر وجولة في ربوع الوطن وحوار العدد وكلمة الغدير.

وقد تألفت هيئة التحرير يومها من شباب صغار بعضهم عند العشرين أو فوقها بقليل ومنهم من لا يزال في مقاعد الدراسة دون هذا السن والأكبر ربما بعد الخمسة والعشرين بسنتين أو ثلاث مدفوعين بقوة الطموح وحماس الشباب والرغبة في المساهمة بما في استطاعتهم من أجل خدمة الوطن متطوعين بأوقاتهم وجهدهم دون أي مقابل مادي ومضت المجلة من حينها على غير سياسة واضحة محددة تلتزمها مع شيء من الجرأة في الطرح والتناول لا تخطؤه العين وفي تركيز على تراث عمان وثقافتها وأعلامها عبر مقالات عن أبي حمزة الشاري وجابر بن زيد وعن الإمام ناصر بن مرشد وعن أبي عبيدة الصغير وعن الإمام الجلندى وعن شيء من التاريخ العماني وعن الآثار والمعالم القديمة إضافة إلى إفساح المجال في الوقت نفسه للأفكار الجديدة والتحاور حولها، فمرة يكون مقال العدد عن السياحة في عمان ومرة عن غلاء المهور ومرة عن دور الأثرياء في دعم التنمية ومرة عن دور الأديب في المجتمع ومرة للتحذير من الفساد في المؤسسات الرسمية ومرة دعوة لإنشاء جمعية للأدباء ومرة عن الغزو الإسرائيلي للبنان واحتلال بيروت وهكذا وفي ضيف الغدير ثمة لقاءات مع المسؤولين ومع الشعراء والكتاب وأئمة الدين والتربويين.

وقد خرج هذا الباب أحيانا إلى خارج عمان مستضيفا شخصيات عربية لها مكانتها لعل من أبرزها إبراهيم العريض شاعر البحرين الكبير وعبدالله البردوني شاعر اليمن الأشهر ود. نورية الرومي الباحثة الكويتية المعروفة والشاعر المغربي علي الود غيري وأسماء أخرى من المبدعين العرب من غير العمانيين. وفي باب جولة الوطن كان التجوال في شتى نواحي الأرض العمانية من صحار إلى ظفار إلى نزوى ومسندم وصور والبريمي والرستاق ومسقط وغيرها وفي الأغلب الأعم الذين يكتبون مادة استطلاع الولايات والمدن هم من أبنائها.

وللدين في صفحات المجلة المكان الأميز بين موضوعاتها ومثله التراث إضافة إلى التاريخ والشعر والكتابات النثرية وكذلك الرياضة والأنشطة الشبابية التي لها ركنها الخاص الثابت شهريا. وبهذا التنوع والجرأة وحضور الشأن العماني أحرزت المجلة ذلك النجاح الواسع وحظيت بالقبول من فئات المجتمع كلها من الشيوخ ومن الشباب ومن النخب العلمية والفكرية إلى الرياضيين وعموم الناس ومن الدولة في المقام الأول حيث بادرها وزير الإعلام بإرسال رسالة رسمية فيها تحية وإشادة احتفت بها المجلة ونشرتها مصورة في أحد أغلفتها الداخلية وفي العموم كان إقبال القراء وتفاعلهم كبيرا جداً فالجميع راغب فيها ومتلهف للفوز بنسخة من إصدارها مطلع كل شهر وتختفي من السوق بسرعة البرق بعيد ظهورها وتكثر الاتصالات بالقائمين عليها والكتابة إليهم من أجل الظفر بنسخة من العدد الجديد الذي نفذ بكامله ويتم السعي لزيادة الأعداد ولكن

الطلب يتضاعف ومن ألف وخمسمائة عدد التي بدأ بها الإصدار

وصلت إلى رقم الثلاثة آلاف ونصف في أواخر

أيامها بعد نحو خمس سنوات وقد ظهرت المجلة أول ما ظهرت باثنين وثلاثين صفحة استطاعت بعد اربع سنوات في أول سنتها الخامسة الوصول إلى الأربعين وفي الأعداد الأخيرة قبيل توقفها زادت لتصل لثماني واربعين . هذا القبول الواسع الذي نالته كان مثار استغراب وتساؤل زميلاتها الأكبر والأرسخ اللواتي سبقنها ولديهن الإمكانيات والمقر والمحررين الثابتين وكان لسان حالهن ما عبر عنه الأستاذ محمد جبريل مدير تحرير جريدة الوطن في حينها الذي أبدى في أحد أعمدته تساؤلاته عن ظاهرة الإقبال على الغدير مناشدا أولئك الكتاب المرتبطين بها أن لا يحصروا كتاباتهم فيها وحدها فقط وأن يشركوا معها الصحف والمجلات الأخرى . وكانت الأقلام العمانية تتوالى على الغدير بكثرة تفتقدها زميلاتها وتتمناها وتسعى لها. ولم يكن للغدير مقر معروف محدد فمقرها بيوت محرريها المتطوعين الذين تكون اجتماعاتهم إن دعا الأمر في المقاهي أو في بيت هذا أو ذاك وبطبيعة الحال لا يوجد موظفون متفرغون يديرون شؤونها . ولكنها مفتوحة الصفحات لكل من أراد كتابة شيء أو الإسهام بموضوع في أي عمر كان ذلك الكاتب ومن أي بقعة من الأرض العمانية. وقد بدأ في صفحاتها وتربى مجموعة من الكتاب أصبحوا بعد ذلك أعلاما يشار إليهم. ومثلما كانت حضنا وموئلا للشباب في بداياتهم كانت أيضا موضع التأييد والمساندة من قبل الأعلام الكبار المتحققين من العلماء ومن الأدباء الذين نشروا فيها كتاباتهم وقصائدهم واختصوها بموضوعاتهم وأحاطوها بدعمهم ورعايتهم. وانهمرت عليها قصائدهم الترحيبية الموجهة والمرشدة والمبتهجة وأول من خاطبها بتحيته كان الشاعر الكبير الشيخ عبدالله الخليلي:

واقعد على الغدير

واكتب على الغــدير

سلاسل السطور

على لجـين الطـرس

وحــــيها تحـريرا

محـبرا تحبــــــــيرا

يكاد أن يطيرا

من لمسات الحس

وحيها شبابا

وناجــــها كـــــتـابا

وراعها صحابا مثل ضياء الشمس

إلى أن قال موجها وناصحا وداعيا إلى التثبت والدقة والحذر من الشطط وأن يكون التركيز الأساسي من أجل السعي للإصلاح والدعوة للفضيلة والرشد والتنبه للمزالق «بحنكة وحذق» :-

فابنوا على المجلة

صرحا لهذي الملة

وأهلها الأجلة

على كريم الأس

بحنكة وحذق

بئاية من صدق

بدعوة لحق

في كرم التأسي

كانت هذه القصيدة أولى قطرات الغيث وقد نشرت في العدد الثامن عشر لشهر مايو 1979 وواضح من أبياتها الاستبشار والتفاؤل والأمل بعطاء مفيد نافع. وفي قصيدة أخرى من نفس الشاعر الكبير يقول:

قل للغدير عليه العين واردة

وحوله الآس والنسرين فالزهر

قل للغدير مياها في مجلته

رقـراقة من معــين الفكــر تنهــمر

شققت دربك نحو المجد فارعة

فاركــــب مطايا الأماني إنها صـبر

أما علامة زمانه الشيخ سالم بن حمود السيابي فقد جاءت قصيدته فياضة بمشاعر المحبة وأحاسيس الرضا تحمل مع الاستبشار اطيب الآمال وصادق الأمنيات:

حي الغدير تحية الإخلاص

يشدو بها الداني معا والقاصي

واقر السلام مرددا تذكار ما

تبـديه من بحــث ومن أفحـاص

وأنظر إلى أدب بها كالدر إذ

جــــــاءت بـه تـوا يـد الغـــواص

ثم تلت هذه القصيدة قصيدة أخرى منه ممتلئة كذلك بأحاسيس البهجة والسرور والتفاؤل باسم الغدير رمز الخصب والإخضرار:-

على الغدير قفابي وقفة الضامي

عل الغدير به قد تشفى ءآلامي

هذا الغدير عليه الورق صادحة

وبلبل اليمن يشجي وعي أفهامي

والغدير تتقدم وهي في أول شبابها فرحة بهذا التجاوب الذي استقبلت به من أولائك الأعلام الكبار ومن بينهم كان الشيخ محمد بن سيف الأغبري الذي لم يتأخر كثيرا وفاض قلمه مستبشرا ومرحبا:-

قد اتصل الغدير بنا فتاقت

إليه النفس ترتشف المعاني

فهيج كل ذي أدب نجيب

ليحظــى بالجمــيل من البيان

والشيخ القاضي خالد بن مهنا البطاشي وهو الأديب والشاعر لم يفته أن يشترك هو الآخر في الترحيب بالغدير مع نظرائه من المشايخ الذين رأوا في هذا الحدث بشرى طيبة للثقافة والأدب:

شربنا من غديركم زلالا

وهـل شـــيء الذ من الغـــدير

حوت حسن البيان وكل معنى

فـمـن حـكم ومن أدب غـــزير

ومثل هذه الأحاسيس الفياضة بالسعادة والبشر جاءت العديد من القصائد من الشيخ أحمد بن عبدالله الحارثي ومن علي بن شنين الكحالي ومن أحمد بن سليمان الريامي ومن سيف بن سالم اللمكي ومن بدر بن سالم العبري ومن أبي سرور ومن حبراس الشمعلي ومن آخرين من أدباء ذلك الوقت كأنهم يستقبلون عزيزا اشتاقوا لرؤيته وسعدوا بحضوره ولعل من بين دوافع هذا الاحتفاء وأسبابه لديهم يومذاك عدم وجود مطبوعة تعنى بالأدب وتهتم بالتاريخ والشخصيات والتراث.

وعلى أية حال فإن مجلة الغدير كانت مجلة بسيطة متواضعة المستوى فلا ينبغي لنا اليوم أن نبالغ في تضخيمها وإعطائها أكثر من حجمها. نعم هي سعت أن يكون لها إسهامها في نهضة الوطن وبث أشعة النور فيه بقدر إمكاناتها وبحسب قدرات محرريها وكتابها.

تلك هي قصة مجلة «الغدير» التي استمرت منذ صدورها وحتى توقفها لمدة ست سنوات ونصف ما بين ديسمبر 1977 - حتى يونيو 1984 م دون ادعاء ريادة أو تفاخر بكبير إنجاز إنما هو جهد المقل وفق الممكن والمتاح .

وقد طلبت مني جريدة عمان قبل أكثر من عقد ونصف أن أكتب لها مقالا عن الغدير فاستجبت لذلك ونشرت الجريدة ما كتبته في شهر يونيو سنة 2000م وكان مطولا بعض الشيء وجاء بعد مضي ستة عشر عاما من توقف المجلة بهدف تعريف الأجيال الشابة التي ظهرت بعدها ولم تطلع عليها بها كحدث من أحداث الوطن خلال تلك الفترة التي أشرنا لها.

وفي تقديرنا أن من سيقوم بكتابة تاريخ الصحافة العمانية في يوم من الأيام لا بد له من ذكر هذه المجلة والتعريج نحوها ولو بنبذة صغيرة باعتبارها من نقاط مسيرة هذه الصحافة لا يمكن تجاوزها مهما كانت بسيطة ومتواضعة.