الملف السياسي

أرضية المواطنة طريق الاستقرار .. السلطنة نموذجا

08 مايو 2017
08 مايو 2017

محمد حسن داوود -

,, في اجتماع وزراء الداخلية والدفاع والخارجية الخليجيين الذي عقد في الرياض قبل أيام، حققت دول الخليج نقلة نوعية جديدة في رؤيتها الاستراتيجية لتحقيق أمنها الشامل ,,

هذه النقلة الجديدة اتضحت في ابداء دول مجلس التعاون حرصها على بناء أفضل العلاقات ومد جسور التعاون مع الدول الإقليمية بما يرسخ الأمن والسلم ويوسع التعاون الاقتصادي،لكنها في الوقت نفسه حذرت من أنها ماضية في منع التدخلات الخارجية في شؤونها الداخلية أو المساس بوحدتها الوطنية وإثارة النعرات الطائفية،مؤكدة عزمها وإصرارها وتصميمها على مكافحة الإرهاب،ودعمها لكل ما تقوم به دول المجلس من إجراءات لمكافحة الإرهاب والجماعات الإرهابية لحفظ أمنها واستقرارها وملاحقة تنظيماته وعناصره المجرمة، وتجفيف مصادر تمويله ومحاربة فكره الضال المخالف لصحيح الإسلام، وحالف الصواب الأمير محمد بن نايف، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية السعودي عندما أكد أن دول الخليج تعتز وتفتخر بما تحقق في مجلس التعاون الخليجي من إنجازات مشرفة خلال مسيرته المظفرة رغم ما واجهه وأحاط به من تحديات سياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية هي غاية في الخطورة والاستهداف، وما واكبها من ظواهر عنف وإرهاب غير مسبوقة, إلا أن الموقف الأكثر أهمية في كلماته برز في قوله إن (التحدي الأكبر في أي دولة في عالمنا المعاصر هو المحافظة على وحدتها الوطنية، بعيداً عن أي مؤثرات أو تهديدات داخلية أو خارجية، وحدة وطنية تعلو فيها ولاءات الوطن على ما دونها من ولاءات شخصية أو عرقية أو مذهبية تفرق ولا تجمع، وحدة وطنية يدرك كل فرد في ظلها واجباته تجاه وطنه وأمته، ويعمل من أجل أمن واستقرار مجتمعه، ويواجه بفطنته المؤثرات السلبية والتوجهات الفكرية المنحرفة دفاعا عن دينه وحماية لوطنه ودحرا لأعدائه وردعا لشروره». لا شك في أن هذه الكلمات وما انتهى إليه اجتماع الرياض من توصيات أو قرارات وتصورات جاءت في وقتها تماما كونها تعكس إدراكا سياسيا حقيقيا لحجم المخاطر التي تمر بها دولنا العربية دون أن تستثني أحدا، فاللعب على الجبهة الداخلية بات واضحا في مختلف الأقطار العربية بهدف خلق شقاقات وإثارة الفتن والحروب من خلال إشعال النعرات الدينية والمذهبية والعرقية والطائفية والقبلية على غرار ما حدث في عديد من دولنا العربية وعلى رأسها سوريا والعراق واليمن والسودان (التي تم تقسيمها بالفعل قبل عدة سنوات على أسس عرقية وقبلية ) وأدى ذلك إلى بروز مخاطر متفاقمة لحدوث انهيار شامل لمنظومة الأمن القومي العربي والعلاقات العربية البينية أيضا تزامنا مع عجز كبير للدول العربية عن التعامل مع قضاياها الطارئة بأفق سياسي ينزع فتيل التوتر ويحجم الأزمات قبل انفلات خيوطها من بين أصابع الجميع، ولم يكن ذلك في حقيقة الأمر سوى نتيجة للتدخلات الخارجية والأجنبية سواء الإقليمية أو العالمية، فأدت في بعض الحالات إلى تفتيت الوحدة الوطنية وإثارة الحروب الأهلية.

ومن المؤكد أن هذه الحقائق المؤسفة باتت تحتم على الأطراف العربية أن تكون هناك وقفة عاجلة وعملية بين الأشقاء لاحتواء الخلافات ومواجهة المخاطر الكبرى البادية في الأفق وعلى رأسها بالقطع احتمالات الانهيار الشامل لمنظومة الأمن القومي العربي والعلاقات العربية البينية التي تمثل هي الأخرى هدفا واضحا وصريحا للأطراف الراغبة في إعادة صياغة المحيط العربي بأكمله سياسيا وجغرافيا واقتصاديا وديموغرافيا، هذا مخطط لن يستثني أحدا وهو الخطر الثاني الذي يجب أن ينتبه إليه الأشقاء العرب ولا بد وأن يدركوا أننا أمام موجة استعمارية جديدة، وعلى كل الأطراف العربية أن تدرك أنها أيضا هدف لتلك الموجة الجديدة بتوريطها في صراعات عسكرية طويلة واستنزاف قدراتها بإثارة النزعات الدينية والمذهبية، ومن الضروري بذل كل جهد ممكن للحيلولة دون وصول العرب إلى السيناريو الكارثي الذي يضعهم على شفير البركان المتفجر، وعلى رأس التحركات المطلوبة في هذا الشأن إصلاح العلاقات العربية ، باعتبارها المنطلق الأساسي لما سيأتي بعد ذلك وتنقية الأجواء وإزالة الغيوم التي تسود أفقها فيما بين بعض الدول العربية والعمل على استعادة المبادرة والفعل للموقف العربي الواحد، وهو ما يتطلب التحرك الميداني من القيادات لدعم الجبهات الداخلية بتقوية الوحدة الوطنية لتفويت الفرصة على المتربصين والإرهابيين. وقد جرى العرف في السنوات القليلة الماضية على طرح مبدأ المواطنة وتأكيد أهميته عند الحديث عن برامج ومقاربات التعاطي مع قضايا العنف والتطرف على الصعيد الداخلي للدول وكذلك على المستوى العالمي، وحقيقة الأمر أن المواطنة وما يرتبط بها من مبادئ وقيم وأصول ليست فكراً جديداً على الإطلاق ولكنها أصبحت أكثر أهمية في ضوء الظروف الدولية والإقليمية الراهنة ، مما يجعل بعثها والتذكير بها والعمل الجاد على تطبيقها أمرا حيويا قبل أن تصل المجتمعات للانفجار والصدام لأسباب دينية أو مذهبية أو طائفية أو عرقية أو حتى طبقية، وليست مبالغة التأكيد على أن مسألة المواطنة يكتنفها كثير من الالتباس عند التعاطي معها ؛ حيث يحدث تداخل كبير لقيمها مع قواعد التعايش السلمي والحريات العامة والشخصية ومبادئ حقوق الإنسان ، وجميعها قواعد مستقرة منذ عقود لحفظ توازن المجتمعات وكيانها البنيوي وهناك ما يشبه الإجماع المنطقي على تداخل عوامل كثيرة ينبغي توافرها بفاعلية لضمان النجاح التام لمفهوم المواطنة، ومعظم تلك العوامل قد يكون بعيداً كل البعد عن حديث وممارسات الاضطهاد أو التمييز الديني والمذهبي والعرقي ، لكونها في الأساس عوامل سياسية واقتصادية وثقافية ومجتمعية شاملة لا ترتبط بالضرورة بديانة معينة، فالتوازن السياسي والضوابط القانونية والعدالة الاجتماعية ومعالجة المشكلات الاقتصادية بتوفير الوظائف وإتاحة فرص العمل وتحقيق معدلات تنمية مرتفعة والقضاء على الفساد أو الحد منه وتحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بالمساواة ودعم طموحات الشباب بفتح مجالات التعليم والأبحاث وريادة الأعمال أمامهم ؛ جميعها قيم وبرامج وممارسات تكفل تعميق مفهوم الانتماء ثم المواطنة لدى شرائح المجتمع المختلفة. ولترجمة ذلك على أرض الواقع يصبح من الضروري الإشارة إلى تبني سلطنة عمان لمفاهيم وقيم شاملة ترتبط بمبدأ المواطنة مما ساهم في وصولها إلى ما هي عليه اليوم ومكنها من تقديم نموذج عملي يحتذى في الوحدة الوطنية وحماية الجبهة الداخلية وتحقيق الاستقرار في أروع صوره، فقد جاء مفهوم المواطنة مرتبطا بالرغبة الأكيدة في تعميق الوحدة وبخطط التنمية الشاملة ، وبالولاء للبلاد وإطلاق مرحلة مختلفة في تاريخها واختياراتها الحديثة في التطوير والتقدم، وفي هذا الصدد نصت المادة (15) من النظام الأساسي للدولة على أن «الجنسية ينظمها القانون ولا يجوز إسقاطها أو سحبها إلا في حدود القانون» ونصت المادة (16) على أنه «لا يجوز إبعاد المواطنين أو نفيهم أو منعهم من العودة إلى السلطنة » وهي مبادئ تعمق كذلك الإحساس بالمواطنة بكل تأكيد.

وبالقطع هناك أسباب منطقية وراء هذه التحولات بعيدا عن عشوائية الرؤية أو عبثية التخطيط والتنفيذ، فقد كانت حصيلة منظومة متكاملة من الفكر المحمل بآليات ومسارات التطبيق والترجمة المدروسة والعلمية على أرض الواقع، والذى أنتج منظومة النهوض القائمة في السلطنة على نحو متميز وربما استثنائي دفع قيادة البلاد إلى أن تقرر ضرورة تغيير معادلة السلطة وإنهاء حقبة الركود الحضاري والتخلف الاقتصادي والاجتماعي بجملة من المقومات والعوامل لمسار الحداثة من خلال مسارات وخطط متنوعة, وبوجود قناعة قوية لدى القيادة بأن الإنسان هو صانع التقدم ولا بد من تأكيد روح المواطنة لديه، ما استوجب ضرورة المحافظة على إرادة المجتمع وتقاليده الموروثة التي تتجلى في الرضا الاجتماعي العام من جهة، وعلى روح العصر ومتطلبات ومنطق التاريخ المتطور على أسس علمية حديثة من جهة أخرى، وقد جاءت النصوص الدستورية من النظام الأساسي للدولة مؤكدة على مفهوم الوحدة الوطنية ، ففي المادة الثانية عشرة من الباب الثاني من النظام الأساسي جاء أن « العدل والمساواة وتكافؤ الفرص بين العُمانيين دعامات للمجتمع تكفلها الدولة» والتعاضد والتراحم صلة وثقى بين المواطنين وتعزيز الوحدة الوطنية واجب ، وتمنع الدولة كل ما يؤدي للفرقة أو الفتنة أو المساس بالوحدة الوطنية، وتمثلت أول خطوة في هذا السياق في توجيه نداء لكل عُماني بالعودة إلى وطنه وعقد الولاء للوطن واختياراته النهضوية ، وأعلن عن عزم الدولة على إعادة الجنسية لمن فقد جنسيته باعتبارها أول خطوة للتمتع بصفة المواطنة، وقد تضمن هذا النداء أمورا مهمة منها الدعوة إلى صفوف الوحدة في السلطنة.

وفى السياق ذاته يمكن الإشارة إلى أن إعادة بناء الوطن تأسست على واقع اجتماعي واقتصادي ساهمت في تشكيله عوامل جغرافية وتاريخية وإستراتيجية، وذلك لترسيخ أسس وقواعد الدولة العصرية الحديثة من خلال السعي إلى تأسيس دعائم الاستقرار الداخلي المبني على قاعدة الاندماج والانصهار الوطني في إطار من التكامل والوحدة ، وقد أثبتت الممارسات السياسية للدولة بكل المقاييس القدرة على ذلك من خلال التأكيد على تعميق فكرة المواطنة ومشاركة جميع فئات المجتمع في بناء الدولة العُمانية الحديثة، أضف إلى ذلك أن التقارب والتعايش الإنساني جزء أصيل و متجذر في الثقافة والمجتمع العماني القائم على التسامح في إطار وطن جامع يستوعب الجميع ويتلاقى مواطنوه على هدف واحد ومستقبل مشترك في تحقيق الازدهار والتنمية، حيث قدمت السلطنة نموذجا رائدا في المنطقة في التسامح والتعايش انطلاقا من أن الاختلاف سنة والتعايش واجب،وأن تكلفة الصراع أعلى بكثير من تكلفة السلام والتعاون، فالتقارب الإنساني هو القوة الدافعة لعملية التنمية والإعمار والتقدم وهو ما أوصل عمان إلى هذه المرتبة المتقدمة في التنمية البشرية والتنمية المستدامة وارتفاع مستوى معيشة مواطنيها، وما أحوج دولنا العربية اليوم إلى تبني هذه المفاهيم لحماية وحدتها الوطنية وتحقيق الاستقرار في ربوع الأوطان.