الملف السياسي

إنقاذ الدولة الوطنية.. المدخل لإصلاح النظام الإقليمي العربي

08 مايو 2017
08 مايو 2017

العزب الطيب الطاهر -

واحدة من التداعيات التي أفرزتها ثورات ما يسمى بالربيع العربي تتجلى في اختراق حالة التماسك التي كانت سائدة في بنية الدولة الوطنية، وإن كان العراق قد تعرض لهذا الاختراق بفعل الغزو الأمريكي في مارس 2003، على نحو متعمد لتمهيد السبيل أمام فرض معادلة سياسية جديدة 

وفي ضوء ذلك، فإن الدولة الوطنية باتت أمام منعطف شديد الخطورة إلى الدرجة أن مقوماتها المعروفة لم تعد قائمة في عدد من الأقطار التي شهدت -وما زالت تشهد- حالة اقتتال داخلي شديدة الوطء متسمًا بطابع مذهبي وطائفي وعرقي، أدى إلى توسيع وتعميق التناقضات التي كان يتم احتواؤها بشكل أو بآخر، على مدى أكثر من قرن منذ تبلور الدولة العربية الوطنية الحديثة.

وثمة إدراك لمخاطر هذه الوضعية التي طالت الدولة الوطنية العربية لدى الجامعة العربية التي تجسد بصورة أو بأخرى النظام الإقليمي العربي، بل إن قناعات أمينها العام أحمد أبو الغيط والتي عبر عنها في مداخلته أمام منتدى الإعلام العربي في دورته السادسة عشر بدبي خلال الأسبوع الفائت، تؤكد أن الخطوة الأولى المطلوبة للخروج من حالة التأزم التي تواجهها المنطقة العربية في المرحلة الراهنة، تتمثل في ضرورة توافر إرادة سياسية عربية لتبنى منهج يقوم على إنقاذ الدولة الوطنية العربية في ظل حالة التشتت والانقسام السائدة، محذرًا من أن استمرار هذه الوضعية سيقود إلى المزيد من الفوضى والصراعات لمائة عام قادمة.

ولا شك أن الوحدة الوطنية في الدولة العربية الحديثة -نتيجة هذه التداعيات- هي الأكثر عرضة للتأثر بمجريات ما حدث خلال السنوات القليلة الماضية، ولم يقتصر الأمر على دول ما يسمى بالربيع العربي بل امتد إلى عدد آخر من الدول، حيث شهدت الوحدة الوطنية انخفاضا في منسوبها وتقليصًا لمساحاتها وخروجًا على محدداتها.

وإنَّ أردنا تعريفها بشكل مبسط، فإن الوحدة الوطنية هي تجمع الأفراد داخل البلد أو الوطن الواحد على مصلحة واحدة، هي مصلحة الوطن، ونبذ الفرقة والعنصرية والتشاحن بينهم، على الرغم مما يمكن أن يكون قائمًا من اختلاف في الدين أو في العرق أوفى المستوى الاجتماعي والاقتصادي، بحسبان أن الجميع أبناء وطن واحد يعيشون سويا تحت مظلته. والوطنية في حد ذاتها، إلى جانب كونها تجسد الشعور العاطفي بحب الوطن الذي يعيش فيه الإنسان، فإنها مطلب مهم يقاس في ضوئه مدى انسجام أفراد المجتمع وتقدمه، وقدرتهم على تحقيق أهدافه وتطلعاته، من خلال اندماج اجتماعي بين شرائحه كافة تحت حكم واحد، والتي تسهم في تحقيقها وغرس مفاهيمها مؤسسات المجتمع المختلفة، بأساليب مباشرة وغير مباشرة.

ومن المؤكد أنه لا يمكن أن تتحقق الوحدة الوطنية من دون توافر عنصر الأمن والأمان وهو إحساس بالطمأنينة والاستقرار وزوال الخوف، مجسدًا بذلك منظومة قيمية للوجود الإنساني، التي أكدها القرآن الكريم في قوله تعالى: الذي أطعمهم من جوعٍ، وآمنهم من خوف» ومن هُنا فإن مطلب الأمن للإنسان من أولى شروط الحياة الكريمة للأفراد والمجتمعات، ووجوده يكفل وجود المجتمع الواحد والموحد والمتكامل والمتجانس، والقادر على إحراز التقدم والتطور، ومواجهة التحديات والعقبات، الداخلية والخارجية على حدٍ سواء، مهما كانت تلك التحديات والعقبات.

في ضوء هذه المعطيات، فإنه بات من الأهمية بمكان توافر الأرضية الصلبة لتمتين الجبهة الداخلية، ورص الصفوف وتقوية أسباب الوحدة الوطنية، إذ هي من أهم الخيارات الحيوية والفاعلة، التي يمكن من خلالها مجابهة التحديات المحيطة بالدولة القطرية، وعلى المستوى القومى في الآن ذاته، وذلك يستوجب القيام بجملة من الخطوات الضرورية للوصول إلى حالة الانسجام الوطني على الأقل في حدها الأدنى:

أولا: خلق البيئة الحاضنة للتواصل بين مواطني الدولة وتعميق خيار التوافق، وتجذير أسباب الوئام والالتحام الوطني، لتتحول كل الجهود والطاقات صوب تحقيق الوحدة الوطنية، وذلك من أجل حمايتها وتعزيزها لتبقى -مستندة إلى منظومة القيم الدينية والأخلاقية والعروبة- الأرض الصلبة التي تحقق أمن الوطن والمواطن وتتكسر على مشارفها كل المؤامرات الداخلية، ومخططات أعداء الوطن الخارجية.

ثانيًا: تكريس مفهوم المواطنة، على أساس أن ذلك يشكل المقدمة الأساسية لوحدة الشعب، «أي شعب»، وهو ما يعني العمل بقوة على تعزيز مبدأ ومفهوم المواطنة لدى أبناء الوطن الواحد، وبكل ما تعنيه المواطنة من حقوق وإجراءات وسياسات، وفي طول البلاد وعرضها ودون استثناء لأحد، فالمواطنة هي المبرر الوجداني الصادق، لتجذير الانتماء المنزه والإحساس الكامل بالمسؤولية وطنيًا وإنسانيًا نحو الوطن، ومن شأن ذلك العمل على بناء شراكة حقيقية وأصيلة بين مكوناته الاجتماعية كافة في العمل على إعلاء شانه، والتضحية من أجله والإيمان الكامل بهويته الوطنية الراسخة، والدفاع عنها بتجرد وإيمان، ولا شك أن إنتاج المشاعر الإنسانية المتحفزة لكل ذلك، يتطلب التوصل إلى توافق وطني واضح وملتزم به، أساسه وهدفه الوصول إلى حالة السلم الاجتماعي، ومنع تشرذم المجتمع.

ثالثًا: إزاحة منطق المحاصصة والذي بدأت مظاهره في التبلور في بعض الأقطار العربية، على أساس طائفي أو عرقي أو مذهبي، ما أدى إلى نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية خطيرة، مثلما حدث في لبنان خلال القرن الماضي، وفي العراق مع الاحتلال الأمريكي، وللأسف ثمة مساعي لفرضه على المعادلة السياسية في كل من سوريا وليبيا واليمن، بفعل تدخلات قوى إقليمية وخارجية.

رابعًا: العمل على تعميم مخرجات التنمية ومقومات النهوض الاقتصادي والاجتماعي في سائر أرجاء الوطن، والسعي إلى القضاء على التهميش على أساس ديموغرافي أو جغرافي، مما يقضي على حالة التفاوت الطبقي الحاد أو بين سكان المناطق أو الأقاليم المختلفة في الدولة الواحدة، والتي يتم توظيفها من أعداء الوحدة الوطنية، على نحو سلبي، بحسبانها الوقود الذي يستخدم لإشعال نيران الصراعات والنزاعات داخل الدول.

‌خامسًا: الإيمان بحتمية الإصلاح السياسي الحقيقي، واتخاذ الإجراءات الحصيفة لمكافحة الفساد بكل أشكاله المالية والإدارية، والقضاء التام على هذه الآفة الخطيرة.

سادسًا: العمل على تثبيت أسس الدولة المدنية التي هي بطبيعتها العامل الأساسي للوحدة الوطنية، كما تمثل في الوقت نفسه الحاضن القانوني والاجتماعي لهذه الوحدة وذلك يتطلب تعزيز الخيارات الديمقراطية وتبنى التعددية السياسية وتطبيق حقيقي لمبدأ تداول السلطة حتى لا تكون عرضة للاحتكار من نخبة أو حزب أو طائفة أو قوى بعينها بحيث يشعر الجميع بأنهم شركاء في الوطن.

سادسًا: تكريس قيم العدل واستقلالية القضاء، وتجذير الحريات وسيادة الدستور والقانون، واحترام مبادئ حقوق الإنسان، من خلال منظومة إصلاح شاملة، فذلك كفيل بتحقيق وحدة الهدف والمصير، وتجذير الشراكة المجتمعية في الغُرم والغنم معًا، وحسم كل الأمور الجدلية، تشريعيا وإداريا وسياسيا، بإرادة شاملة وعبر الحوار وتجنب منهجية فرض القرارات من أعلى وإنما بتعين إجراء حوار مجتمعي بشأنها بالذات فيما يتعلق بالقضايا الكبرى، ثم التوحد الشامل في مواجهة المخاطر الخارجية.

وأخيرًا فإن تحقيق هذه المقومات لبناء الوحدة الوطنية في الدولة العربية القطرية يمثل المدخل الرئيس إن لم يكن الأوحد لصياغة أسس الأمن الوطني والذي يعني -وفق مفهومه المجرد- الإحساس بالطمأنينة والاستقرار، سواء للإنسان ابتداءً، وللمجتمع تاليا، وهو ما يؤسس لأول شروط الحياة الكريمة، وإلا فإن الحياة في إطارها الواسع تغدو رهنا بالمجهول، والمجهول قد يكون مُرعبا، لا بل هو بالضرورة، نوع من الضياع.

وهذا هو السبب المباشر لتدني قدرة الفرد على الإحساس بالأمان، وفقدان قدرته على التفكير والتصرف، لتصبح مثالب الشك والحيرة وانتظار المجهول، هي العناوين الغالبة على مجمل الحياة في بيئته الاجتماعية.