الملف السياسي

لا أحد يريد حرق أصابعه في كوريا مرة أخرى !!

01 مايو 2017
01 مايو 2017

د. عبد الحميد الموافي  -

وكأن العالم في حاجة الى مشكلة أخرى  !!  فإلى جانب ما يعانيه من مشكلات متفجرة ، في سوريا وليبيا واليمن وافغانستان ، واوكرانيا وفنزويلا ، وما يفرضه الإرهاب من تحديات تطال الجميع تقريبا ، انتبه العالم فجأة الى جولة من جولات شد الحبل ، ان جاز التعبير، والى نغمات التهديدات المتبادلة ، وقرارات التصعيد ، المحسوب بالطبع ، حتى الآن على الأقل ،

ووصل البعض الى توقع الصدام وانفجار المواجهة غدا بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية !! وذلك في ضوء اللهجة والكلمات والخطوات التي تم اتخاذها ، سواء من جانب الادارة الأمريكية وكوريا الجنوبية واليابان من ناحية ، او من جانب كوريا الشمالية من ناحية ثانية ، وما ترافق مع ذلك من تحركات وقائية من جانب الصين وروسيا الاتحادية ، وكل منهما له حدود مع كوريا الشمالية من ناحية ثالثة . وبالتالي تهيأت اسباب وعوامل الصدام المحتمل ، والذي لا يحتاج سوى الى تهور احد الأطراف ، او حتى خطأ تقني ، او محاولة اختبار بائسة او غير مسؤولة من جانب طرف للطرف الآخر ، حتى ينفجر الموقف على نحو يصعب بالفعل تصور ما يمكن ان يؤول او يتطور اليه . وبرغم دقة وخطورة برميل البارود ، القابل للاشتعال في شبه الجزيرة الكورية ، خاصة في ظل عدم اليقين بالنسبة لردود فعل الطرفين الاساسيين في جولة شد الحبل هذه ، وهما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ، وعلى الجانب الآخر الرئيس الكوري الشمالي « كيم جونج اون « , الا ان الرهان يظل قائما ومستندا الى ان ايا منهما ، او غيرهما من المسؤولين المعنيين ، بهذه المشكلة المتفجرة ، لا يريد ولا يرحب ، ولن يسارع الى حرق اصابعه ، بغض النظر عن طبيعة واختلال توازن القوى بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية ، ليس فقط لأن الحروب لا تتم لمجرد الاختلال في توازن القوى بين طرفيها ، وان كان ذلك تم و يتم عربيا للأسف ، ولكن ايضا لأن كوريا الشمالية ليست سوريا ولا افغانستان ، لأنها تملك ما يمكن ان يدمي العملاق الأمريكي بشكل او بآخر . وفي ضوء ذلك فإن ما يجري في جنوب شرق آسيا يحتاج الى قدر اكبر من الهدوء للنظر اليه ، ومحاولة الاقتراب من دوافع الجولة الحالية من شد الحبل ، خاصة وانه يقف على الجانبين اطراف اخرى معنية ، بل وقد تجد نفسها مشاركة ، او تتقدم للمشاركة بشكل ما ، واهمها الصين الشعبية بالطبع ، وروسيا أيضا ، وبالتالي تتحول المباراة الى مباراة بين لاعبين من الوزن الثقيل ، ولا يريد احد الوصول الى هذه النقطة من الوضوح في المواجهة ، التي يعرف كل طرف موقعه فيها . ولعله من الأهمية بمكان الإشارة باختصار الى عدد من الجوانب ، لعل من اهمها ما يلي :

*اولا : انه بالرغم من أنه من المعروف والمسلّم به ان الولايات المتحدة ، باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم ، لها خطوطها الاستراتيجية المحددة والمستقرة بالنسبة للمصالح والأولويات ، وحتى سبل وخيارات التعامل مع المشكلات في مناطق العالم المختلفة ، وخطوات تأمينها ، وفي هذا الإطار كانت واشنطن في ظل ادارة الرئيس السابق اوباما تستعد للتوجه شرقا ، بمعنى إعطاء قدر اكبر واولوية للتركيز على منطقة المحيط الهادي والباسيفيكي وصولا الى جنوب شرق آسيا ، وهي منطقة حازت على اهتمام امريكي قديم وعملي بها ، فإن موقف الادارة الامريكية الجديدة ، على الصعيد الاستراتيجي ، يظل غير محسوم ، على الاقل نظريا ، خاصة وان الرئيس ترامب شغوف بمحو كل اثر لسلفه داخليا وربما خارجيا ، بغض النظر عما يمكن ان يترتب على ذلك من نتائج مباشرة وغير مباشرة .

واذا كان موقف ترامب من تايوان - والذي تم تصحيحه سريعا - لا يزال حاضرا في الذاكرة ، وانه استقبل الشهر الماضي ، الرئيس الصيني « جيب بينج « في البيت الابيض ، وانه لم يكن مصادفة ابدا ، ان يقوم ترامب ، بالتزامن مع ذلك ، باستخدام اكبر قنبلة تقليدية في الترسانة الامريكية ، والمسماة بأم القنابل ، ضد انفاق تنظيم داعش في افغانستان ، وان يصدر في الوقت ذاته أوامره بتحريك مجموعة قتال بحرية امريكية تتضمن حاملة طائرات للاقتراب من السواحل الكورية الشمالية ، فإن موقف الرئيس الامريكي حيال كوريا الشمالية الآن ، يتسم بالكثير من الأهمية ، لأنه سيحدد على الارجح الرؤية الامريكية في ظل ادارة ترامب للمدى الذي يمكن ان تصل اليه في العمل لحفظ المصالح الامريكية، وبالطبع حفظ مصالح حلفاء امريكا في شرق وجنوب شرق آسيا ، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية وغيرها ، ضد تهديدات كوريا الشمالية من ناحية، وفي مواجهة تطلعات، بل ومحاولات الصين التمدد وترسيخ الوجود في بحر الصين الجنوبي والشرقي من ناحية ثانية ، وما يثيره ذلك من مشكلات متنازع عليها مع عدد من دول جنوب شرق آسيا حول الجزر وحقوق السيادة .

وليس سرا القول بأن زيارة الرئيس الصيني الأخيرة لواشنطن قد وضعت بعض النقاط على الحروف في علاقة امريكا مع الصين ، ولكن هناك جوانب وقضايا عديدة لم تحسم بعد ، ومنها الموقف في كوريا الشمالية ، خاصة وان ترامب حاول حث الصين على المساعدة ، وتقديم مكافآت لها إذا قامت بذلك ، برغم ان القضايا الاستراتيجية ، لا تحسب على هذا النحو المتأثر بالخبرة التجارية لترامب. ولذا فان التجاوب الصيني لم يصل الى غايته بعد ، وان كانت بكين قد حذرت بشكل واضح ومعلن من استخدام واشنطن للقوة ضد كوريا الشمالية ، وهو تحذير لابد وان يكون له صدى في اروقة واشنطن . على أية حال فإنه بغض النظر عما اذا كانت الإدارة الأمريكية قد اسرعت في إيقاظ مشكلة موجودة منذ سنوات عديدة ، وهي مشكلة البرنامج النووي لكوريا الشمالية ، وبرنامجها للصواريخ البالستية ، ربما في محاولة من الرئيس ترامب ، لإعطاء صورة له ، وانطباع عنه ، بأنه اكثر جدية وتشددا من سلفه اوباما ، الا انه يحتاج بالفعل الى سلم لينزل من فوق الشجرة ، وليحتوي الموقف ويعود به الى حالة التهدئة ، والتعامل معه بشكل يتجنب التصعيد ، خاصة وان الرئيس الكوري الشمالي ليس لديه ما يخسره ، وانه رد بقوة على التهديدات الامريكية ، ورفع حالة الطوارئ في بلاده ووضع قواته في حالة التأهب ، و أجرى اكثر من محاولة لإطلاق صواريخ بالستية ، ومع انها فشلت جميعها ، الا انها عبرت عن موقف التحدي للإدارة الأمريكية .

*ثانيا : انه من المعروف في الأدبيات العسكرية ان بناء القوة العسكرية والحفاظ على كفاءة عالية لها ، وإقناع الخصم بإمكانية استخدامها ضده عند الضرورة ، هي من اهم السبل التي تحول دون وقوع القتال بالفعل ، وعلى هذا الأساس نشأ مبدأ الردع القائم على اليقين بقدرة الخصم على الرد الفعال، حتى بعد تلقيه الضربة الأولى ، واذا كان مبدأ الردع النووي بعد الحرب العالمية الثانية ، قد حال دون نشوب حرب نووية ، حتى الآن ، فان مخاطر الانتشار النووي ، والتقدم في صنع وتجهيز عبوات نووية تكتيكية - صغيرة ومحدودة المساحة في التدمير - لم ينل ، حتى الآن على الأقل ، من جوهر مبدأ الردع ، إذ يظل الرهان على عقلانية القيادات والمسؤولين عن اتخاذ القرار ومن بيدهم سلطة الضغط على الزر النووي ، ومن هنا تحديدا فإن قعقعة السلاح ، وتحريك المجموعات القتالية ، ورفع حالة الطوارئ في بعض وحدات الجيش الصيني والروسي ، وبالطبع الكوري الشمالي ، والتصريحات النارية بالويل والثبور لأمريكا إذا اقدمت على ضرب كوريا الشمالية ، وبالطبع الوضعين الإقليمي والدولي ، وحسابات المصالح لكل طرف ، تشير في النهاية الى صعوبة الانجرار والانزلاق الى مواجهة عسكرية من جانب واشنطن ضد كوريا الشمالية . وهنا تحديدا فان استخدام ترامب لأم القنابل في أفغانستان ، كان بمثابة رسالة تخويف لكوريا الشمالية ، وليس بروفة لتكرار استخدامها ضد بيونج يانج .

من جانب آخر فإنه يمكن القول ان كوريا الشمالية ، التي تشعر بتهديد أمريكي حقيقي لها ، وهو تهديد يطلب رأس النظام من وجهة نظرها ، باتت تدرك جيدا ان حمايتها تكمن في برنامجها النووي وتطويره ، وفي أنظمتها الصاروخية البالستية . صحيح ان تجارب مختلفة فشلت في الأسابيع الأخيرة ، ولكن الصحيح ان كوريا الشمالية تسير بخطى ثابتة ومطردة لدعم قدراتها النووية والصاروخية ، ولسان حالها يقول ان العراق وسوريا وليبيا تم افتراسها والعبث يها نظرا لتخليها عن اسلحتها وبرامجها للدمار الشامل ، وهو ما تضعه ايران نصب عينيها ايضا . يضاف الى ذلك نقطة جوهرية ، هي ان كوريا الشمالية وصلت ، بل تجاوزت نقطة امتلاك القدرة النووية ، حيث قامت بستة تفجيرات نووية حتى الآن ، كما انها بنت وتبني صواريخ بالستية قادرة على حمل رؤوس تقليدية ونووية، وبالتالي فإن خطرها بات حقيقيا ، ولا يفصلها عن الوصول بالتهديد الى الأراضي الأمريكية ، سوى فاصل زمني قد يصل الى عامين تقريبا ، وفق المصادر الأمريكية. وعلى ذلك فإنه قد فات أوان إمكانية تجريد كوريا الشمالية من قدراتها النووية ، التي تحمي وجود نظامها ، بغض النظر عن تقييم هذا النظام من جانب امريكا او غيرها . بالتأكيد تدرك واشنطن ذلك، بل أدركته منذ سنوات ، والمفاوضات بين كوريا الشمالية وبين مجموعة الدول المعنية ببرنامجها النووي - امريكا وروسيا والصين واليابان وكوريا الجنوبية وفرنسا وبريطانيا - في السنوات الأخيرة خير دليل على ذلك . ومعروف ان هذه الدول قد ساومت بيونج يانج ، وتعهدت بإمدادها بالغذاء في مقابل وقف برنامجها النووي . غير ان كوريا الشمالية تبدو اشد مراسا ، برغم كل مشكلاتها الاقتصادية ، وبرغم انها تعيش في أوضاع متأخرة سنوات عديدة عن العالم ، وتعوض ذلك ببرامجها العسكرية الأكثر تطورا والتي تحمي وجود النظام .

*ثالثا : انه في الوقت الذي يصعب فيه امكان انفجار الموقف في كوريا الشمالية ، بقرار عقلاني ، وان لم يكن مستحيلا ان تزداد سخونة الموقف ، عبر اتباع سياسة واساليب حافة الهاوية ، من جانب كلا الطرفين ، فإنه من الأهمية بمكان التوقف امام ما اعلنه الرئيس الامريكي ترامب وتلويحه بقدرته على الحل مع كوريا الشمالية ، اذا لم تقم الصين بالمساعدة في حل الأزمة ، ومع انه انتقد تقاعس الصين في هذا المجال ، او ما اعتبرته مصادر أمريكية تحركا صينيا غير كاف ، فإن تكراره إمكانية قيامه بالحل ، و إشارته ذات مرة خلال حملته الانتخابية ، الى إمكانية الحوار مع الرئيس الكوري الشمالي ، وهو ما أشار إليه وزير خارجيته تيلرسون قبل ايام ايضا ، يجعل من المحتمل ان يقوم ترامب بتحرك ما في اتجاه كوريا الشمالية لتليين موقفها ، استنادا الى الحشد العسكري بالقرب من حدودها من ناحية ، وطمأنة لقيادتها القلقة من التهديد الأمريكي من ناحية ثانية ، ولكن الغموض الشديد في بيونج يانج قد يجعل ترامب في حاجة الى الصين ومساعدتها للنفاذ الي القيادة الكورية الشمالية. وبالقطع فإن بكين لن تمانع في ذلك ، بل سترحب به ، لأنها تريد الاستقرار في شبه الجزيرة الكورية ، ولا تريد لواشنطن ان تخرج منتصرة ، او تبدو منتصرة ، في جولة شد الحبل هذه ، فضلا عن ان جموح النظام في كوريا الشمالية يثير بالقطع قلقها وقلق روسيا ، برغم العلاقة الطيبة والوثيقة معه ، فتحولات السياسة غير مضمونة في النهاية . واذا كان خيار الحرب صعبا ان لم يكن اقرب الى المستحيل ، فان الخيارات الأخرى تكون فرصها اكبر ، ولكن في إطار مقبول لخدمة مصالح الأطراف المختلفة بما فيها الصين وبالطبع أمريكا وحلفائها .