أفكار وآراء

وقف حروب الكراهية.. مهمة عاجلة للقوى الناعمة

29 أبريل 2017
29 أبريل 2017

د. عبد العاطى محمد -

تلعب القوى الناعمة دورا مهما في تشكيل الوعي والارتقاء بالإبداع الإنساني. وفي أوقات الأزمات غالبا ما تكون الآلية التي يمكن اللجوء إليها للتعبئة والحشد نحو أهداف ومواقف بعينها لحل هذه الأزمات.

ولأن الحروب هي أقصى نقطة في تعقيد أزمة ما، تجد القوى الناعمة فيها المجال الأرحب لتشريح تعقيدات النفوس البشرية على امتداد مسطرة للقياس ما بين الخير والشر. كما تتسم الكتابات الإبداعية والأعمال الفنية المختلفة بشأنها بأقصى صور التعبير وأكثرها صراحة حتى لو كانت الصراحة شديدة القسوة. ولنا في أعمال عظماء الأدب والفن نماذج عديدة أثرت بقوة في مسيرة البشرية. ولكن الحروب تركت بصماتها من جهة أخرى على عديد الأعمال الإبداعية في اتجاه آخر مختلف يقع في دائرة تشكيل الوعي الإنساني والتعبئة والحشد وتغيير المفاهيم لصالح إحداث تحولات سياسية وديموغرافية في حاضر ومستقبل مسيرة الأمم وأنظمة الحكم. ومن يفتش في أرشيف الأعمال السينمائية الرائدة والتي لا تزال موضع الاهتمام والرغبة في المشاهدة، يستطيع أن يقف مليا عند الدلالات السياسية المرتبطة بالأعمال السينمائية التي تناولت إما توثيقا أو تمثيلا لحروب عديدة مزقت العالم ونقلته من حال إلى حال. وما ذلك التأثير إلا نظرا لقوة تأثير الصورة على العقل البشري، تلك الصورة التي تجعل العقل جاهزا بسهولة لتقبل أفكار ومواقف بعينها حتى لو كانت على غير الحقيقة.

واقعنا العربي المعاصر قد يكون في اللحظة الراهنة بعيدا عن واقع التحولات الكبرى التي أحدثتها حروب عالمية غيرت مسار البشرية ومجتمعاتنا كانت جزءا منها بالطبع. ومن ذلك ما ارتبط بأسباب ونتائج الحربين العالميتين الأولى والثانية 1914 و1939، وبالحرب الباردة ما بين الخمسينات والثمانينات من القرن الماضي. وفي الأرشيف أعمال سينمائية عديدة صنعتها الماكينة الفنية الغربية اهتمت ليس فقط بصراع الخير والشر على وقع هذه الحروب، وهو أمر يحمد لها بكل تأكيد، وإنما أيضا بترسيخ صورة ذهنية عند المشاهد أيا كان موقعه على سطح المعمورة بأن القوى المنتصرة في هذه الحروب كانت الأذكى والأقوى، والأهم كانت هي التي على الحق، بينما الخصوم المهزومون كانوا بلهاء وضعفاء ودائما كانوا على الباطل أو بالأحرى كانوا خطرا على البشرية وتقدمها وجب الخلاص منه.

وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف حول كيفية معالجة الماكينة الفنية الغربية لوقائع هذه الحروب وتداعياتها، فإنها أكدت ولا تزال تؤكد مقولة أن المنتصر دائما على حق، وأن انتصاره هذا لابد أن يقابله ثمن فادح يتعين على الخاسر أو المهزوم أن يدفعه.. صوت المنتصر الذي يجب سماعه وروايته يجب تصديقها ، بينما الخاسر لا يجب سماع صوته ولا تصديق روايته مهما تذرع بالحجج التي تتحدث عن وقوعه ضحية ظلم المنتصر في كل حال.

ما يدفع إلى الاهتمام بموقف القوى الناعمة العربية من الحروب، هو أن واقعنا العربي يعيش عددا من الحروب التي من المؤكد تعيد صياغة حاضره ومستقبله، ليس هو وحده، بل قطاع كبير من العالم المحيط به إقليميا كان أم عالميا . وقد يطول زمن «حروبنا العربية» أو يقصر، ولكنه في آخر المطاف إلى نهاية بعينها حيث تسكت المدافع ويتحدث أنصار السلام والأمن. ولذلك لا مفر أمام القوى الناعمة العربية من أنها ستواجه - إن لم تكن معنية بالفعل الآن- السؤال الكبير، ألا وهو ما الذي أنتجته أو ما سوف تنتجه بخصوص تفاعلها مع واقع الحروب الراهنة، هل تلجأ - مثلما فعل الغرب المنتصر قديما - إلى التفاعل بنفس التوجه، أي تغليب رؤية المنتصر وتبرير قراراته وتعتبره صاحب الحق وزعيم الخير، وبالمقابل النيل من الخاسر أو المهزوم والتأكيد على أنه كان على الباطل مع وصمه بأشد أوصاف الشر، أم أن المسألة مختلفة تماما؟، هذا إذا أردنا تطبيق قواعد الماكينة الفنية الغربية وقسنا بنفس قياس ما فعلته بخصوص الحروب العالمية الفائتة.

قد يكون من السابق لأوانه استشراف ما يمكن أن تفعله القوى الناعمة العربية بهذا الصدد على وجه التحديد، وفي المقدمة من ذلك ما ستجود به الأعمال السينمائية من ناحية، أو الأدبية بصورها المختلفة من ناحية أخرى. وللحق فإن ما لا يمكن إغفاله أن قطاعا من الغيورين على الوضع العربي لديهم ما فعلوه وما يزعمون القيام به عندما تسكت المدافع، وهناك أمثلة عديدة على ذلك، ولكنها تظل محاولات فردية ولا تشكل تيارا عاما.

ومع ذلك فإن «حروبنا العربية» المعاصرة لا تنطبق عليها قواعد النظر للحروب العالمية القديمة ولا بالطبع مقولة المنتصر دائما على حق، أو أن هناك منتصرا وحيدا وخاسرين كثر. فهناك فوارق في التشخيص وطبيعة الحروب ذاتها. وتضع هذه الفوارق الموضوع في سياق مختلف، مما يفرض على القوى الناعمة العربية أن تتناوله بشكل مستقل عن التراث العالمي القديم المتعلق بالحروب.

أولا «حروبنا العربية» المعاصرة حروب بين قوى المجتمع داخل كل دائرة ساخنة تشهد حربا مشتعلة، وليست بين دول بجيوشها الجرارة وحكوماتها العتيدة راسخة البنيان. صحيح أن هناك تدخلات خارجية دولية، إقليمية كانت أم عالمية، أو بالأحرى هناك دولا كبرى دخلت طرفا في هذه الحرب أو تلك، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ولكن الحقيقة التي لا يشكك فيها أحد هي أن كل حروبنا المعاصرة بين جماعات أو قوى من الشعب الواحد داخل الوطن الواحد. ودون التقليل من الدور الدولي الخارجي، فإن حروبنا المعاصرة تبقى «حروبا بالوكالة» أي حروب تقوم بها قوى داخلية نيابة عن الدول التي تطلب منها ذلك. تتصارع الدول على توجيه مقاليد الأمور في المنطقة العربية، وذلك مفهوم لأسباب لا يتسع لها المقام، وبما أنها لا ترغب في أن تخوض حروبا مباشرة فيما بينها تحقيقا لمصالحها، فإنها تلجأ إلى حلفائها من القوى المحلية (الوطنية) للقيام بالمهمة بدلا منها مستغلة في ذلك طبيعة المنطقة المعقدة التركيب اجتماعيا والتي ورثت تاريخا طويلا من الصراعات السياسية.

وثانيا حروبنا بالغة التعقيد والتشابك في عناصر اشتعالها والقوى التي تقوم بها. صحيح أنها انعكاس للصراع على السلطة أو تطبيقا لقاعدة أن السلطة تكون للقوى المتغلبة، ولكنها تعدت هذا الهدف إلى العمل على إفناء كل طرف لخصمه.. حروب بين طوائف ومذاهب وفئات اجتماعية فقيرة كانت أم غنية..حروب الكل ضد الكل!. هنا لم تعد الحروب صراعا على مصالح وإقامة إمبراطوريات على حساب إمبراطوريات أخرى، بل صراع على هويات وثقافات وانتماءات مستجدة داخل وطن واحد جغرافيا. المثال الوحيد الذي نجد له شبيها لذلك على المستوى الخارجي هو حرب السبعين عاما بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا في القرن السابع عشر (اندلعت 1643)، ولكنها لم تأخذ شكل الحرب العالمية . في الحروب القديمة لعبت النزعات الوطنية المتطرفة (الشوفونية) كالنازية والفاشستية الدور الأبرز في اندلاعها، بينما في حالتنا العربية المعاصرة اختفى تماما العامل الوطني أيا كان منطقه ووصفه وحل محله الانتماء إلى أطر سياسية فوق قومية أو تتعدى الحدود الوطنية .لم يعد مفهوم الوطن كما عرفته الأجيال التي خاضت مرحلة الاستقلال الوطني قائما.

وثالثا تفوق الكلفة الإنسانية «لحروبنا العربية» كلفة الحروب العالمية القديمة .صحيح أن تلك الحروب راح ضحيتها عشرات الملايين من الناس، وصحيح أن الحرب العالمية الثانية لم تتوقف إلا بعد أن تم ضرب مدينتين يابانيتين بالقنابل الذرية هما هيروشيما وناجازاكي مما سبب مآسي ضخمة للشعب الياباني، كما تم تدمير مدن غربية عديدة، إلا أن الكلفة الإنسانية للحروب الجارية عربيا تفوق السوابق . فعالمنا العربي الذي يفوق عدد سكانه الـ 300 مليون نسمة مهدد معظمة بالفناء ليس فقط على مستوى الموت المباشر من جراء المعارك في النقاط الساخنة وإنما على مستوى الواقع الحي حيث يتدنى مستوى المعيشة إلى حد مخيف، فالملايين اليوم هم كالأموات الأحياء من شدة الفقر وفقدان الخدمات.

الشعب السوري نصفه أو أكثر يعيش لاجئا هائما على وجهه، والباقي ينتظر الموت تحت خطر الإرهاب أو القمع. والقطاع الأكبر من اليمنيين على شفا المجاعة.والشعب الليبي ليس بعيدا عن هذا الحال بشكل أو بأخر.

ليس في «حروبنا العربية» المعاصرة إذن منتصر أو خاسر (أو مهزوم) بل الكل خاسر في حقيقة الأمر ولا أحد يستطيع الادعاء بأنه المنتصر. ولذلك فإن القوى العربية الناعمة لا يصح أن تتعامل مع هذه الحروب بنفس قواعد التعامل مع الحروب العالمية القديمة ولا بمقولة المنتصر دائما على حق فلا أحد ينطبق عليه هذا الوصف. بل عليها أن تستنكر وتدين الوضع برمته ولا تبرئ أحدا. رسالتها المنتظرة هي طي صفحة الماضي والاتفاق على العيش المشترك الذي لا يقصى أحدا مهما كانت حدة الخلاف معه، وبناء مستقبل خال من الكراهية، بشرط أن تعمل باستقلالية كاملة.