شرفات

الروح الصوفية في شعر أبي نبهان الخروصي

24 أبريل 2017
24 أبريل 2017

عزان المعولي -

صدرت حديثا عن ذاكرة عمان الطبعة الأولى من كتاب «نفائس العقيان ديوان أبي نبهان» من تحقيق إبراهيم بن سعيد، وهو الديوان الذي جمع فيه الشيخ خميس بن جاعد قصائد أبيه الشيخ جاعد بن خميس الخروصي المتوفى سنة 1237هـ/‏ 1822م والمعروف بالسيد الرئيس، ورغم أن المخزون العماني القديم من المخطوطات مليء بقصائد الشعر في أغراضه المتعددة التي انحسرت إجمالا في المنظومات الفقهية وتخليد الوقائع التاريخية والمدائح والفخر وتمجيد السلاطين والأئمة واستنهاض المقاومة الوطنية والدينية إلا أن ديوان أبي نبهان يعد فريدا ونادرا من نوعه في الشعر العماني أو العربي عموما لما احتواه من عمق فلسفي وبيان لغوي وتعال ديني في الروح الصوفية.

يتجلى العمق المعرفي والوجداني في شعر أبي نبهان في قصيدته المسماة حجر الفلاسفة والتي تحمل عنوانا يدلل على سعة المعرفة الخيميائية والفلسفية لدى الشاعر، القصيدة مسبوكة في أبعاد لغوية تحمل في مضمونها رمزيات مبهمة أحيانا وواضحة في أحيان أخرى، ما يميز النص الشعري في حجر الفلاسفة هو القدرة العجيبة للشاعر على استحضار عمق رمزي يحمل في معانيه إمكانيات متعددة في التفسير وهو أشبه بنص حداثي يقترب كثيرا من السريالية أو الغرائبية الشعرية، ففي حين يبدو المعنى الظاهر من القصيدة هو الجدل التاريخي حول خصائص وسر تكون حجر الفلاسفة الذي أسهب فيه العالم الكيميائي جابر بن حيان إلا أن هناك معاني عميقة تحمل اتجاها فلسفيا عن الوجود والخلق والتسامي في الروح الذي يقترب كثيرا من التصوف الشعوري.

القصيدة تتنوع بين حديث عن الذات وبين حوار وجودي بين كائنين اثنين عن القصة الأولى للخليقة، هناك استحضار لأسماء تاريخية إسلامية لها السبق في الكتابات الفلسفية الأولى مثل خالد بن يزيد بن معاوية الذي تذكر الروايات التاريخية أنه أنفق جهده وماله في نقل الكتب الفلسفية اليونانية إلى اللغة العربية ورفضه للعمل السياسي، ومارية القبطية التي تروى عنها روايات متعددة عن علم الخيمياء، يقول: «فخالد والدي صدقا وأمي/‏ فمارية وأمهما حميَّا»، يستمر السرد الشاعري في حوار غيبيٍّ عن التكون الأول للإنسان بقوله: «وكل كان في الأولى صغيرا/‏ حقيرا ناقصا نزرا كميَّا، إلى أن كان ما قد كان كونا/‏ بتكوين المكوِّن سرمديَّا»، متنقلا إلى الحديث عن تباين الجنسين في الوجود البدائي ومحاولة أولى لفهم هذا الاختلاف والحديث عن الرغبة الأولى أو الميل الفطري في الحب، يقول: «لأني الماء لونا ثم طبعا/‏ وأنتِ النار جسما صلدميَّا، حنيني في أنيني من حبيبي/‏ ولعج البين صرتِ به ضنيَّا».

لا يغفل الشاعر عن تأصيل فكرته عن الموت وما بعد الموت فهو يرسم لصورة المصير الأبدي عددا من أبياته الشعرية التي يتجلى فيها الحس الوجداني لما بعد الموت تبتدئ بقوله: «فمتنا في رياض سماء أرض/‏ تضاهي العنبر اللدن الطريا، فصرنا والتراب معا سواء/‏ تمازجنا المزاج الأكمليا».

هذا الشعور بالغيب وما بعد الموت يجعل الشاعر يتسامى روحيا عن المذاهب الفكرية والدينية في قصيدته الشعرية وهنا إبراز للروح التي تتعالى عن كل أيديولوجيا أو منظومة أرضية منغلقة، يقول: «تمذهبتُ المذاهب بعض عمري/‏ انتسبتُ قدريا مرجئيا، حنيفيا وأيضا شافعيا/‏ ووقتا حنبليا مالكيا، وشيعيا وحينا أشعريا/‏ ومن بعد إباضيا رضيَّا»، فحسه بالعمق الوجودي والسعة الإيمانية بالله تعالى جعلت روحه تتسامى عن كل انتساب أو حصر فكري إلى حكمة علوية روحانية وشمولية يقررها الشاعر بقوله: «فدعني منهم طرا جميعا/‏ خليلي حين كنت الخارجيا، وصرت الآن روحاني حكيما/‏ خرقت به الحجاب الحندسيا»، بمعنى أن هذا التسامي في التفكير والشعور جعله روحانيا مترفعا عن النفس البشرية ذات الطبع الحاد والمتقلب، وعند وصوله لهذه المرتبة العلية تفتحت له أسرار العالم وهو ما يعنيه بخرق الحجاب كمصطلح صوفي يراد به انكشاف الأسرار المخفية عن الناس.

لا بد من الإشارة أن القصيدة يمكن تفسيرها بعدة معان مختلفة فالأبيات التي فهمنا منها فكرة التسامي عى الاختناق الفكري والذي تجلت فيه أبعاد التسامح الديني عند الشاعر يمكن تفسيرها بتفسيرات متعلقة بالمعنى الحقيقي من مصطلح حجر الفلاسفة والتي ذكرها محقق الديوان، إلا أن هذا لا ينفي المعنى الظاهر من تأثر الشاعر بنظريات التصوف التي تتعالى على المدارس الفكرية والتي يقترب فيها كثيرا من الأبيات التي تروى عن ابن عربي: «لقد صار قلبي قابلا كل صورة/‏ فمرعى لغزلان ودير لرهبان، وبيت لأوثان وكعبة طائف/‏ وألواح توراة ومصحف قرآن، أدين بدين الحب أنى توجهت/‏ ركائبه فالحب ديني وإيماني».