الملف السياسي

الأوروبية والعروبة .. وعوامل التعرية !!

10 أبريل 2017
10 أبريل 2017

د. عبد الحميد الموافي  -

من المؤكد أن الدول العربية تدرك قيمة العمل العربي المشترك وتطويره وتعميق جذوره ، غير أن المشكلة المزمنة للعمل العربي المشترك من خلال الجامعة العربية ان كل دولة عربية تنظر الى المصالح الجماعية العربية عبر منظور مصلحتها الفردية فقط الى حد كبير.

ليس من المبالغة في شيء القول بأن تجربتي التكامل الاقليمي العربية والاوروبية ، هما من اقدم تجارب التكامل الاقليمي بعد الحرب العالمية الثانية ، واذا كانت جامعة الدول العربية قد انشئت في عام 1945، فان اتفاقية روما عام 1957 لإنشاء السوق الاوروبية المشتركة سبقتها في الواقع اتفاقيات وتنظيمات اوروبية ، منها على سبيل المثال مجموعة بروكسيل ( بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا ) عام 1948، وبالطبع مجلس اوروبا ، الذي يوجد حتى الآن ، والذي انشئ عام 1949 وكان لرئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل دور ملموس فيه، منذ دعوته لإنشاء مجلس اوروبا في عام 1943 و1946، حيث كانت فكرة الولايات المتحدة الاوروبية تداعب مخيلته، ومنظمة الفحم والصلب عام 1951 ( رفضت بريطانيا المشاركة فيها حرصا على استقلالية صناعة الحديد والصلب فيها ) . ولم تكن مصادفة ان يتزامن ذلك مع انشاء حلف شمال الاطلنطي الذي انشئ عام 1949. ومع ذلك فان بريطانيا لم تنضم لاتفاقية السوق الاوروبية المشتركة عام 1957 ، الا بعد سبعة عشر عاما، أي في عام 1974. وعلى ذلك فإن بريطانيا لم تكن بعيدة ، ولا منفصلة تماما عن دعوات التكامل الاوروبي، وان كانت لها نظرتها الخاصة، التي تأثرت كغيرها بعوامل التعرية السياسية المتعددة والتي يتراكم تأثيرها عادة مع مرور الوقت وتغير الظروف السياسية واختلاف تقييم المصالح الفردية ايضا بين فترة واخرى.

من جانب آخر ، فإن العلاقة بين ضفتي البحر الابيض المتوسط ، اوروبا شمالا والدول العربية جنوبا ، هي علاقات قوية وعميقة وممتدة ايضا في عمق الزمن ، فالأمن الاوروبي ، منذ القدم كان يتم دعمه بالسيطرة من جانب هذه القوة الاوروبية او تلك ، على تخوم المنطقة العربية او الامتداد فيها ، والامثلة في هذا المجال اكثر من ان تحصى. واذا كانت اتفاقية روما عام 1957 بمثابة حافز ، بل سببا مباشرا في الدعوة المصرية في اواخر خمسينات القرن الماضي لإنشاء السوق العربية المشتركة والتقدم بمشروع اتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية بين دول الجامعة العربية ، وهو المشروع الذي تم اقراره بعد سبع سنوات ، أي في عام 1964، ولم تنضم اليه سوى 11 دولة عربية فقط ، فإن الدول العربية تدرك بدورها اهمية وضرورة بناء علاقات جيدة وعادلة ومفيدة مع الدول الاوروبية . وبعد حرب اكتوبر عام 1973 بدأ الحوار العربي الاوروبي عام 1974 بين المجموعة الاوروبية وبين جامعة الدول العربية، والذي تعثر بعد بضع خطوات ، لأسباب عدة تنظيمية وسياسية ومنها الخلاف حول مشاركة فلسطين في الحوار . وعلى أية حال فان اعلان عمّان ، الصادر عن القمة العربية الثامنة والعشرين ، التي عقدت الشهر الماضي في البحر الميت ، قد دعا الى الحوار مع الاتحاد الاوروبي والعمل على تطوير العلاقات معه بشأن قضايا باتت تفرض نفسها على كلا الطرفين ، في مقدمتها الامن والاستقرار في الدول العربية ، وقضايا تدفق المهاجرين العرب نحو اوروبا وبالطبع مكافحة الارهاب ، والسعي لإيجاد حلول سياسية للقضايا العربية ، اذ ان اوروبا تعد طرفا اصيلا ومهما في هذا المجال ، ليس فقط من منطلق الاحساس بالذنب حيال العرب، لدور اوروبا في كثير من المشكلات الراهنة ، ولكن ايضا كضرورة مصلحة للعرب والاوروبيين ، الآن وفي المستقبل . ومع ادراك اهمية وقيمة وضرورة تطوير العلاقات العربية الاوروبية ، بحكم عمق واتساع المصالح الاقتصادية والامنية والسياسية والثقافية ايضا بين الجانبين ، الا انه من المهم ، في هذا الموضوع التطرق الى مدى تأثر تجربة التكامل الاوروبية والعربية، بعوامل التعرية السياسية، اذا جاز التعبير، ونقصد بها العوامل والمؤثرات التي تؤثر سلبا على قوة وتماسك وربما استمرارية ونجاح تجربة التكامل على كلا الجانبين. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الاشارة باختصار شديد الى عدد من الجوانب، لعل من اهمها ما يلي :

*اولا : لعله من الاهمية بمكان الاشارة الى ان «الاوروبية» التي تشكل الركيزة او الارضية التي انبثقت منها تجربة التكامل الاوروبية ، وان كانت قد اختلطت بها بالطبع المصالح والدوافع السياسية ، الفرنسية والالمانية والبريطانية والهولندية وغيرها ، الا انها تبلورت في مجموعة قيم محددة تستند على الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وبناء مجتمع الامن الاوروبي ، المتحرر من التهديدات المتبادلة او المحتملة بين اعضائه ، واعطاء الاولوية لتطوير سبل التعاون والتكامل الجماعي والمتعدد الاطراف لتحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة ،ثم فإن الجانب العقلي والادراكي والمصلحي بالمعنى المباشر ، قائم وموجود في جهود التكامل الاوروبي . ولعل هذا الوجود وقوته هو ما يشكل تعويضا مهما لافتقار الدول الاوروبية الى رابطة قومية تضمهم مثلا . فالدول الأوروبية متعددة القوميات واللغات والاعراق ، ومع ذلك انحازت بوعي وارادة الى ما يزيد ويدعم الروابط والمصالح المشتركة بينهم .

على الجانب العربي فإن الدول العربية يتوفر لها مزايا الروابط القومية والتاريخ والمصير المشترك واللغة والثقافة والعادات والتقاليد المشتركة، والتي تقرب بالطبع فيما بينها ، او ينبغي ان يكون ذلك. وبالتالي فان « العروبة» تشكل الركيزة الاساسية لتجربة التكامل العربية ، ويعززها ادراك المصالح المشتركة والمتبادلة بين الاشقاء . غير ان العروبة كرابط قومي عانت ، وتعاني من سلبيات الثقافة والسلوك العربي في علاقته بالعربي الشقيق ، فلا تزال الفردية والشخصنة والانفعالية ، ولدد الخلاف مع الشقيق ، وعدم القدرة على الفصل بين ما يجمع وبين ما قد يثير خلافات يمكن التغلب عليها ، الى جانب نزعة المباهاة او التفاخر العربي الاصيلة قائمة وتجد سبيلها احيانا الى السطح مع اول تكشيرة او بوادر خلاف ما ، وقد ادى ذلك في كثير من الاحيان الى نوع من الازدواجية ، بل والفجوة الكبيرة بين القول والفعل ، حتى على مستويات السياسة العربية العليا . بكل ما يترتب على ذلك من نتائج . وبقدر ما تستند الاوروبية على اسس عقلانية ، تستند العروبة او تغلف بأسس ومشاعر عاطفية او انفعالية يمكن توظيفها لخدمة الشيئ ونقيضه عند الضرورة . وقد حاولت جامعة الدول العربية تنمية وتأكيد البعد العقلاني في السياسة والعلاقات العربية ، ولكنها لا تزال تتعثر كثيرا لأسباب معروفة .

*ثانيا : انه من المؤكد ان الدول العربية تدرك قيمة العمل العربي المشترك وتطويره وتعميق جذوره ، غير ان المشكلة المزمنة للعمل العربي المشترك من خلال الجامعة العربية ان كل دولة عربية تنظر الى المصالج الجماعية العربية عبر منظور مصلحتها الفردية فقط الى حد كبير ، وهو ما يعطل الكثير من الخطوات المهمة والمفيدة لمجموع الدول العربية ، والامثلة اكثر من ان تحصى .

وفي هذا المجال فإن « العروبة » كرابطة قومية تعرضت اما للاستغلال ، او الاستثمار لخدمة سياسات محددة من جانب بعض الدول العربية ،في مراحل معينة او انه تم اضعافها ، واحيانا تجاهلها ، من خلال التركيز على اطر اوسع للعلاقات كالشرق اوسطية، او الرابطة الاسلامية الاوسع ، خاصة في مراحل الخلافات الشديدة بين بعض الاشقاء . يضاف الى ذلك ان رابطة العروبة ذاتها تعرضت ، وتتعرض احيانا ، لعوامل تشكيك من جانب هذه الدولة العربية او تلك بفعل مواقف او حسابات ما . ومع ادراك اهمية وضرورة العمل على تنمية التنوع الثقافي والحضاري العربي ، فان ذلك لا يتعارض مع تنمية الرابطة القومية العربية ، والعمل على تعزيز قيمها المشتركة ، خاصة ما يتصل بقيم ومبادئ العمل العربي المشترك في اطار جامعة الدول العربية وفي مقدمتها عدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام السيادة والتقيد والالتزام بالامن المتبادل للاشقاء ، حتى تتعزز الثقة المتبادلة، والتي تشكل ارضية ضرورية لتنمية وتطوير التكامل العربي ، سواء على مستوى الجامعة او على اية مستويات اخرى ثنائية او متعددة الاطراف .

وهنا فانه لم يكن مصادفة ان تأخذ جامعة الدول العربية ، ومنذ انشائها بأسلوب تعدد السرعات في العمل المشترك بين الاشقاء ، يقينا أن ذلك من شأنه ان يخدم مسيرة العمل العربي المشترك في النهاية. ومما له دلالة ان تظهر الدعوة للأخذ بأسلوب تعدد السرعات الآن في الاتحاد الاوروبي ، بعد ان ظهرت فجوات بين الدول الاعضاء حيال اكثر من قضية من قضايا التكامل الاوروبية ، وهو ما سلطت بريطانيا الضوء عليه ، عبر انسحابها من الاتحاد الاوروبي .

واذا كانت « العروبة » قد تأثرت بفعل اعلاء الدول العربية للمصالح الفردية على نحو كبير ، فان « الاوروبية » تتعرض بدورها ، خاصة في السنوات الاخيرة ، لهذا الامر بشكل متزايد . ليس فقط من خلال البريكست ، ولكن ايضا من خلال الخلافات الشديدة حول توزيع اللاجئين واقتسام الاعباء بين الدول الاوروبية ، حيث ترفض بولندا والمجر على سبيل المثال تحمل اعباء في هذا المجال .ومن شأن نمو وانتشار التوجهات الشعبوية في دول الاتحاد الاوروبي تغذية هذا الامر وهو ما يمكن ان يعرض تماسك الاتحاد الاوروبي لخطر حقيقي ومتزايد .

* ثالثا : ان قمة روما لدول الاتحاد الاوروبي ، التي عقدت في مارس الماضي بمناسبة مرور ستين عاما على اتفاقية روما، كانت بمثابة تجديد اوروبي ليس لاتفاقية روما بشكل رمزي ، ولكن للارادة الاوروبية المشتركة لدعم تماسك الاتحاد الاوروبي ، بعد خروج بريطانيا منه ، والعمل على حشد اكبر قدر من الارادة السياسية المشتركة في هذا الاتجاه ، وتعد الانتخابات العامة والرئاسية في عدد من الدول الاوروبية ، هولندا والمانيا وفرنسا على سبيل المثال خطوة في هذا الاتجاه ، اذا تمت هزيمة التوجهات والدعوات الشعبوية المعادية للاتحاد الاوروبي بشكل او بآخر . وعلى الجانب العربي فان قمة عمّان العربية ، التي عقدت في البحر الميت ، كانت بمثابة تعبير جماعي عربي عن الحرص على الحفاظ على الحد الادنى من الرابطة العربية ، خاصة في مواجهة تهديدات حقيقية تطال اكثر من دولة شقيقة . ومع ان الاردن الشقيق وقيادته حرصت على بذل كل ما يمكن للخروج بأكبر مساحة ممكنة من التوافق بين الاشقاء ، وهو انجاز في حد ذاته ، الا ان تفاعلات السياسة العربية ، وما يطرأ على مواقف عدد من الدول الشقيقة من تغيرات وحسابات قريبة وبعيدة ، ظاهرة ومستترة ، سرعان ما تعيد العلاقات والسياسات العربية الى ما عانت وتعاني منه منذ سنوات، بشكل او بآخر . ومع ان ذلك لا يمكن ان يكون مدعاة لليأس او القنوط ، الا انه من المهم والضروري العمل لتحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة بين الاشقاء وبما يعود عليها جميعها بالنفع ، مع اعطاء مزيد من الاهتمام للتمسك بمبادئ العلاقات العربية لبناء ثقة متبادلة اكبر وبشكل حقيقي ، ولتجاوز اية اوهام في العلاقات بين الاشقاء ، بعد ان كشفتها الخلافات على نحو صارخ ، فلتكن الفوائد والمصالح المشتركة والمحسوبة والواعية ايضا سبيلا لتنمية التكامل العربي بعيدا عن الشعارات والمظهرية والمكايدة وتعمد عرقلة هذا الشقيق او ذاك او دحرجة الصخور في طريقه .

واذا كان الاتحاد الاوروبي نجح في هذا المجال ، فإننا كعرب سننجح حتما في النهاية ، فالسياسة هي في جوهرها مصالح مشتركة ومتبادلة ، حتى لو تم تغليفها بالسلوفان او الحرير او العسل .