973113
973113
شرفات

قصة قصيرة : بأي ذنب قُتلتْ؟!!

03 أبريل 2017
03 أبريل 2017

شريفة التوبية -

يخرج صوتي المخنوق صريراً وصفيراً، بعد أن هوت تلك العصا الغليظة على رأسي بشكل مباغت، أقاوم الموت، أقفز قفزات هستيرية والعصا تلاحقني، تهوي على جسدي بشكل عشوائي، أتمسك باللحظة الأخيرة لي في الحياة، وأراني أخرج من جسدي، بعضي في العتمة وبعضي الآخر في النور، يعشي النور عيناي فلا أرى شيئاً، لست أعلم حتى هذه اللحظة أين سأكون وأنا أخرج بصعوبة بالغة من ذلك الكيان الجسدي الذي كنت فيه، هذا هو الموت الذي كنت أهرب منه قد أتى لكني لا أعلم لماذا أتى بشعاً وبهذه الطريقة المؤلمة، ماالذي فعلته ولأي سبب قُتلتْ ومن الذي قتلني ؟!!..لست أعلم.

تغادرني الحياة في هذه اللحظة لكني أراها كلها قبل أن يأخذني الموت، تمر الحياة عابرة سريعة في ذاكرة تفرغ كل حمولتها بلحظة أخيرة، رأيتني أسكن هذا البيت الذي أحببته دون كل البيوت الأخرى، إنه بيتي الذي ولدت وتربيت فيه، إنه البيت الذي رحلت منه أمي وتركتني فيه وحيداً، بعد أن وجدتها ملقية في إحدى زوايا المطبخ، فهذا البيت الكبير كان لي وحدي ومع ذلك لم أكن أشعر بالوحدة، فذكرياتي مع أمي في كل مكان فيه، البيت مكون من غرفة جلوس وصالة طعام ومطبخ وغرفتين للخدم وحديقة واسعة وخمس غرف للنوم في الأعلى، ولم أكن بحاجة لكل هذه الغرف ولكن وجدته مناسباً لمزاجي المتقلب، حيث يطيب لي التنقل بين الغرف أو الجلوس في الحديقة أحياناً للتأمل، ذلك لا يجعلني أشعر بالوحدة ويجعلني في منأى عن القطط التي لا أحبها ولا أطيق حتى رائحة فروها.

أعيش بصمت تام، حتى الجيران لا يشعرون بوجودي، أحببت هذه الحياة الهادئة التي تجعلني في عزلة عن الجميع، ولكن دوام الحال من المحال، وما أخشاه قد حدث بعد أن أتت أسرة بأكملها لتشاركني الحياة في هذا البيت، فتقلب لي حياتي رأساً على عقب وليتغير كل شيء بين يوم وليلة، ابتداء من الديكور الداخلي ولون الأصباغ، فلم يعد لي رأي في شيء، أصبح البيت فجأة مكتظاً بقطع الأثاث وقطع الألعاب، وصراخ الأطفال الذي لا يهدأ، لم أكن راضياً بالطبع في أن يكون لي شريك في بيتي ولكن تلك رغبة صاحب البيت وليس من حقي الاعتراض، لم أستطع الخروج من البيت فكل زاوية فيه تمثل لي ذكرى غالية وجميلة مع أمي، أصبحت محاصراً في بيتي، روائح الطبخ أصبحت مزعجة خصوصاً روائح الثوم والبصل المقلي بالزيت التي كانت تدير لي رأسي، الطباخ الهندي لهذه العائلة كان مزعجاً، له صوت حاد يكاد يخترق طبلة أذني، خصوصاً حينما يبدأ بالحديث عبر هاتفه النقال في محادثة طويلة جداً لا أظن أنها ستنتهي، ترعبني نظراته الحادة التي يصوبها نحوي دون أن يقصد ولكن مجرد أن أرى عينيه أشعر بالرغبة في التبول وبشكل غير إرادي، أصبحت محشوراً ومنزوياً في زاوية ضيقة من البيت فبعد أن كان هذا البيت لي، أصبح لهم ولم يعد لي فيه سوى تلك الزاوية الصغيرة التي أختبئ فيها، أحببت العاملة الفلبينية التي كانت تمر من أمامي وكأنها لا تراني، لا يعنيها شيء سوى عملها الروتيني المعتاد بتلك الأدوات التي كنت أراها معها دائماً، كانت تصعد منذ الصباح فتبدأ بتنظيف الطابق العلوي، تضع الصابون والديتول وشيء من المعقمات التي لا أعرف اسمها ولا أحب رائحتها، فتملأ المكان رائحة نفاذة تشعرني بالغثيان والحكة ولكني لا أستطيع الحديث معها وإخبارها، فبعد أن تنتهي من التنظيف تفتح هاتفها على صفحة الفيس بوك لتلتقط بعض الصور لنفسها ولبعض زوايا البيت فترسلها على الفور، كنت أبالغ في الاختباء حتى لا تظهر صورتي معها في صورة (سلفي).

يا إلهي كم كان الحصار شديداً لي، لقد أصبح الأمر فوق طاقة احتمالي، لم يعد لي مكان أجلس فيه سوى غرفة المكتبة وبين كراتين الكتب المغلقة، عرفت ذلك من خلال رائحة الكراتين، فللكتب رائحة خاصة أستطيع تمييزها ومعرفتها لأنها مزيج من رائحة الورق والحبر، فهناك فرق بين رائحة الكتب الحديثة ورائحة الكتب القديمة، أستطيع تمييز ذلك بحكم خبرتي في الحياة ومحبتي للكتب، إنهم يحبون الكتب وأنا أحبها مثلهم، لذلك تجرأت يوماً وفتحت أحد الكراتين كي أشغل وقتي الضائع والمحاصر بين أفراد هذه الأسرة، فأصبحت أقضي معظم وقتي وأنا منشغل بأوراق الكتب أو نائم في تلك الزاوية المعتمة معتمداً على إضاءة بسيطة تعينني على إنجاز مهمتي، فلم أكن أتمكن من الخروج سوى في ساعة متأخرة من الليل وبعد أن ينام الجميع والغريب أنهم لا ينامون قبل الثانية عشرة، ولا يهدأ البيت قبل منتصف الليل، فإما يقرأون الكتب أو ينشغلون بمطالعة أجهزتهم الإلكترونية، الوحيد في البيت الذي لم أكن أسمع له صوتا هو الولد، والذي كنت أشعر بقربه مني ولا أعلم سر هذه القرابة بيننا ورغم ذلك لم أتجرأ يوماً على الجلوس معه أو الظهور أمامه، كنت أكتفي بمراقبته من بعيد، فحينما يعود من المدرسة يتناول جهازه الصغير ويبدأ في مشاهدة قنوات يوتيوب أو يلعب ( البلايستيشن ) وفي كل إجازة أسبوعية يغلق على نفسه باب غرفته ويبدأ اللعب عبر جهاز ملحق بشاشة كبيرة على الجدار فلا يسمع ولا يرى شيئاً مما يدور حوله فهو قد أغلق أذنيه بسماعات كبيرة تغطي معظم رأسه فلا يظهر من شعره الكثيف سوى خصلات تظهر من أسفل رأسه، إلى درجة أنه في بعض الأحيان حينما ينسى باب غرفته مفتوحاً أدخل وأجلس خلفه وأراقب مراحل اللعبة التي يلعبها مع أصدقائه الذين يتحدث معهم عبر سماعات الأذن ولا يراني، لم يكن يستطيع رؤية شيء أكثر من تلك الشاشة التي كان يدير من خلالها معركة شرسة، إنه يقاتل ببسالة، لكنه في الحقيقة كائن مسالم لا يؤذي أحداً ولا يعنيه وجود أحد أكثر من أبطال لعبته وعدد الجنود الذين يلاحقهم في ساحة المعركة الافتراضية، أحببت غرفته بما فيها من فوضى، ورغم محاولة الخادمة في تنظيفها وإعادة ترتيبها لكن رائحة النظافة تتبدد منها وتزول سريعاً، فالهواء راكد فيها والضوء نادراً ما يلامس جدرانها بحكم تلك النافذة المغلقة دائماً، وبالنسبة لي غرفته هي الأفضل من أي غرفة أخرى، فأقضي صباحي متنقلاً بين غرفته وغرفة الكتب.

أشعر بعدائهم، لقد حاولوا قتلي مراراً، فوضعوا لي السم في الطعام ولكني كنت حريصاً بأن لا أتناول أي طعام يقدمونه لي، كنت لا أثق بهم، سمعتهم يتشاورون ويخططون للبحث عن طريقة مناسبة للخلاص مني، تركوا لي الأبواب مفتوحة كي أخرج وما خرجت، تجنبتهم لكنهم ظلوا عدائين وأنانيين ومع ذلك يمثلون الضعف والهشاشة، تعجبت في إحدى المرات حينما صرخت إحدى بناتهم صرخة عالية فهرع الجميع لنجدتها لمعرفة سبب صراخها وكنت أيضاً مندهشاً ومفزوعاً وقلقاً مثلهم عليها، كانت ترتجف وتشير إلى الزاوية التي كنت أختبىء فيها.. وتصرخ وتبكي بطريقة هستيرية

- شفته، شفته

بدا الجميع مرتبكاً وغاضباً وثائراً، سمعت الأب يقول:

-ضروري يُقتل

لم أكن أعلم سر هذا العداء، فهذا بيتي مثلما هو بيتهم، لم أفعل شيئاً يستحق كل هذا الغضب، كنت حزيناً جداً في ذلك المساء، تأملت الحياة التي أعيشها بعد أن رحلت أمي وشاركوني هذا البيت،فوجدتها كئيبة وقاتلة، ليست هي الحياة التي أريدها، وما كان يبقيني سوى رائحة أمي والتي ولن يستطيعوا إزالتها أو محو آثارها بأي نوع من المنظفات التي يستخدمونها كل يوم، لكن كان لا بد من اتخاذ قرار حاسم في الأمر، إنهم عائلة كبيرة وأنا وحيد ومستضعف بينهم، كان لا بد من الرحيل والبحث عن حياة أخرى وبيت آخر، قضيت ليلتي الأخيرة هناك في المكتبة استعداداً للرحيل صباحاً.

إنه صباح هادئ، خرجت كي ألقي النظرة الأخيرة على المكان الذي عشت فيه، أتأمل الزوايا التي كنت فيها مع أمي، فلن أحمل من هذا البيت شيئاً سوى ما هو موجود بذاكرتي، دخلت غرفة الولد كآخر ما يمكن أن أودعه في هذا البيت، إنها اللحظة التي أشعر فيها بألم حاد يمزق رأسي الصغير، بعد أن هوت تلك العصا الغليظة عليه، أحاول الهرب والإفلات لكن العصا تلاحقني، أحاول أن أخبرهم بأني سأخرج وأنه اليوم الأخير لي هنا، لكن قد فات الأوان، لم يعد بإمكاني رؤية شيء ولكني أستطيع سماع أصواتهم حتى غابت.. وهم يرددون

-قتلنا الفأر... قتلناه.