أفكار وآراء

روسيا والشرق الأوسط.. آفاق ومتغيرات

29 مارس 2017
29 مارس 2017

عبدالعزيز محمود -

في إطار استراتيجية طويلة الأمد لاستعادة مكانتها عالميًا، تواصل روسيا تحركاتها لاستعادة تأثيرها ونفوذها في الشرق الأوسط، عبر محاولة تشكيل تحالفات إقليمية ودولية جديدة، وزيادة وجودها العسكري في أكثر من موقع في هذه المنطقة الحيوية، وتدعيم علاقاتها الاقتصادية والتقنية والنووية السلمية مع عدد من بلدان المنطقة بما فيها إسرائيل.

يأتي ذلك بالتوازي مع تحول استراتيجي عميق الدلالة حيث تواصل الولايات المتحدة الأمريكية فك ارتباطها تدريجيًا بالشرق الأوسط، مع تراجع اعتمادها على نفط المنطقة، بفضل ثورة الغاز الصخري التي حولتها لدولة مصدرة للطاقة، ورغبتها في الاتجاه آسيويًا لاحتواء العملاق الصيني الصاعد.

وهو تحول سوف يستغرق وقتًا، لكن موسكو تستغله بشكل جيد في تدعيم وجودها العسكري في المنطقة، وتطوير علاقاتها مع إيران وتركيا والعراق والجزائر وإسرائيل، بعد أن استعادت علاقاتها مع حلفائها التقليديين: سوريا والعراق ومصر وليبيا والسلطة الفلسطينية، عبر التعاون الاقتصادي والتقني وفي مجال الحرب على الإرهاب وغيرها .

وكشفت اللقاءات التي أجراها الرئيس الروسي فيلاديمير بوتين مع قادة المنطقة (25 لقاء خلال عامين) حرص كل الأطراف -رغم اختلاف وجهات النظر- على دعم التعاون لحل الملفات العالقة خاصة في سوريا والعراق وليبيا واليمن فضلا عن عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية ومكافحة الإرهاب ودعم التعاون الاقتصادي والتقني وفي مجالي النفط والغاز.

وبدا واضحًا أن التمدد الروسي يكتسب زخما، نتيجة إصرار الروس علي الثأر لكرامتهم، بعد ثلاثة عقود من انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 وإشعال ثورات أطاحت بالحكومات الموالية لموسكو في صربيا وأوكرانيا وقيرغيزستان وجورجيا، وإسقاط نظم عربية حليفة في العراق عام 2003 وليبيا في عام 2011

ويرى الروس أن ما جرى لبلادهم في تسعينات القرن العشرين كان جزءا من استراتيجية غربية لتحجيم الدور الروسي، وتحويل روسيا من قوة عظمى إلى دولة غير ذات تأثير كبير على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وهو ما ظهر بوضوح خلال الحرب الأمريكية في أفغانستان (2001) والعراق (2003)، وعدم الاكتراث أمريكيا بروسيا حتى قيامها بمساعدة إيران علي بناء مفاعل بوشهر النووي، وتطوير قدراتها التسليحية.

وجاءت الفرصة حين تولي الرئيس بوتين السلطة في عام 2000، حيث قام خلال ولايته الأولى بترتيب البيت الروسي من الداخل لمواجهة الانهيار الاقتصادي، وتطوير القدرات العسكرية، وزيادة صادرات الغاز والسلاح، ومع بدء ولايته الثانية في عام 2004 اعتمد بوتين استراتيجية جديدة لدعم التعاون الاقتصادي والعسكري مع الصين والهند واليابان.

وفي تطور لاحق أعاد علاقات بلاده مع حلفائها التقليديين في الشرق الأوسط وفي مقدمتهم سوريا وليبيا والجزائر ومصر، وبدأ في محاولة اكتساب شركاء جدد في الخليج والأردن تحت شعار شراكة استراتيجية ذات أبعاد اقتصادية وتقنية توفر لروسيا عوائد اقتصادية ولدول المنطقة عوائد تنموية.

ومع اندلاع انتفاضات الربيع العربي في عام 2011 تعاملت موسكو معها باعتبارها جزءًا من مخطط أمريكي لإعادة هيكلة المنطقة ووقف التمدد الروسي، واشتدت مخاوف الروس من امتداد هذه الهبات إلى محيطها الحيوي، مما دفعها لاتخاذ موقف مساند للحكومات الشرعية، خوفا من فشلها وصعود الإرهاب، وكان هدف الروس واضحًا: نحن نحمي حدودنا الجنوبية.

وكان التخطيط الروسي بعيد النظر، فالمحاولات الأمريكية لزراعة الديمقراطية في الشرق الأوسط باءت بالفشل، ولم تسفر إلا عن مزيد من التطرف وعدم الاستقرار، ولم تنتج إلا دول فاشلة أو غارقة في حروب أهلية، فضلا عن فشل أمريكي مماثل في تغيير الحكم في سوريا -حسبما تمنى البعض- والفشل في الحد من طموحات القوى الإقليمية الأخرى

ويمكن تلخيص أهداف الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط فيما يلي:

أولاً: إنهاك أمريكا استراتيجيا باستدراجها إلى نزاعات المنطقة، عبر الدعم الروسي لسوريا، والدفع بالأسطول الروسي للبحر المتوسط في عام 2007، مدعوما بقاعدة بحرية في طرطوس، وقاعدة جوية (حميميم) شرق اللاذقية، والتدخل عسكريا في سوريا (سبتمبر 2015) لمنع انهيار السلطة في سوريا.

ثانيا: فتح أسواق جديدة لصادرات السلاح الروسي، من خلال عقد صفقات مع سوريا وإيران والجزائر والعراق والمغرب وليبيا والسعودية ومصر وقطر واليمن ومؤخرًا مع الأردن وعدد من دول الخليج، وتعتبر روسيا ثاني أكبر مصدر للسلاح بعد الولايات المتحدة، وتقدر صادراتها منه للمنطقة بين عامي 2006 و2015 بما قيمته 12.7 مليار دولار، ونحو 6 مليارات دولار خلال عام 2016. ثالثا: التنسيق مع دول الخليج العربية خاصة الإمارات والسعودية لتحقيق استقرار في أسعار النفط ودعم التعاون التقني و الاقتصادي، والتعاون كذلك في الاستخدامات السلمية للطاقة النووية وتكنولوجيا الفضاء مع دول عربية أخرى. وبرز ذلك في تدفق استثمارات كبرى شركات النفط الروسية (غاز بروم، ولوك أويل) إلى المنطقة، وامتد التعاون ليشمل مشروعات مشتركة مع السعودية ومصر والجزائر والسودان وسوريا وليبيا، بينما شاركت قطر في شركة (روسنيفت) النفطية الروسية باستثمارات بلغت 10 مليارات دولار.

وتدعو موسكو لإنشاء منظمة عالمية للغاز الطبيعي تضم قطر والجزائر وإيران بالإضافة إلى تركمانستان واوزبكستان وفنزويلا، كما تسعى لدعم التعاون مع دول الخليج العربية في الصناعات البتروكيماوية (تمتلك روسيا 15 شركة كبرى للبتروكيماويات حول العالم).

رابعًا: توسيع التعاون الأمني لمكافحة الإرهاب، بتطوير التعاون لاستخباراتي والعسكري مع بلدان المنطقة بما فيها إسرائيل، وتكثيف التدريبات المشتركة لمكافحة الإرهاب، وفي هذا الصدد تنظر موسكو للشرق الأوسط باعتباره حزاما غير محكم الأطراف يحيط بجمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز، مما يجعله خط الدفاع الأول عن حدودها الجنوبية في مواجهة داعش (يضم التنظيم نحو 2500 مواطن روسي يقاتلون ضمن صفوفه).

وهكذا عادت روسيا إلى الشرق الأوسط عبر سوريا، البوابة الشمالية للشرق العربي، وعبر بوابات أخرى بالطبع، وأصبح الوضع في المنطقة يحمل تنافسا إقليميا ودوليا حادا. والتدخل العسكري الروسي في سوريا، ورعايتها لمفوضات الاستانا لحل الأزمة السورية، هي في الواقع مظاهر واضحة لذلك و من جانب آخر ساهم الموقف الروسي في سوريا في إحداث نقلة نوعية في التعاون الروسي الإيراني، حيث تعتبر موسكو إيران لاعبا مهما في المنطقة، ودعمت اتفاقها النووي مع مجموعة (5 + 1) في يوليو 2015، وأمدتها بالمزيد من الأسلحة كأنظمة الصواريخ اس-300 وطائرات سو 30، وفي المقابل زادت إيران من وارداتها من السلاح الروسي، وقدمت ملياري دولار سنويا لتمويل إمدادات السلاح الروسي لكل من سوريا وحزب الله في لبنان.

وقد اثأر التطور في العلاقات الروسية الإيرانية قلق إسرائيل بالطبع، مما دفع موسكو لتدعيم علاقاتها مع الدولة العبرية، أقرب حلفاء واشنطن في الشرق الأوسط، ويسعى البلدان رغم تباين وجهات النظر للوصول إلى تفاهمات بشأن الوضع في سوريا وإيران ولبنان، وتؤمن روسيا نسبة كبيرة من احتياجات إسرائيل من النفط الخام، وتكثف التعاون المشترك معها في مجال مكافحة الإرهاب. من ناحية أخرى أشعل التدخل الروسي في سوريا خلافات حادة بين موسكو وأنقرة، و لكن بعد 18 شهرًا من التدخل العسكري الروسي، أصبحت تركيا، عضو حلف الناتو وحليف الولايات المتحدة، صديقًا جديدًا لروسيا، بعد تجاوز البلدين لأزمة إسقاط الطائرة واغتيال السفير الروسي في تركيا، وفي يناير الماضي شاركت طائرات تركية وروسية لأول مرة في غارات جوية ضد مواقع لداعش، ويحاول البلدان -رغم المنافسة التاريخية بينهما- الوصول إلى تفاهمات بشأن مستقبل سوريا، بينما يدرس الأتراك بتشجيع روسي فكرة الانضمام إلى منظمة شانغهاي للتعاون التي تقودها الصين، كبديل عن الانضمام للاتحاد الأوروبي.

كل الدلائل تؤكد أن التمدد الروسي في الشرق الأوسط لن يتوقف، فالرئيس بوتين مصمم على استعادة مناطق النفوذ التقليدية، وكسب مناطق جديدة، في إطار استراتيجية أوسع لإعادة بناء المكانة الروسية العالمية مرة أخرى، وفي المقابل تميل الولايات المتحدة الأمريكية نحو سياسة الانسحاب التدريجي من المنطقة، وهكذا استهل الرئيس ترامب رئاسته، وقوات روسيا وطائراتها متمركزة في سوريا، وبوارجها راسية قبالة سواحل سوريا وليبيا، ولها أصدقاء في عواصم أخرى مؤثرة بالشرق الأوسط.