أفكار وآراء

تحولات السياسة وأثرها على الاقتصاد

15 مارس 2017
15 مارس 2017

مصباح قطب -

[email protected] -

كما قال القائل لا توجد صداقة دائمة ولا عداوة دائمة ولكن توجد مصالح دائمة. ليس هناك من تفسير للتحول الذي طرأ على تقييم إحدى المجلات الأوروبية الشهيرة للاقتصاد المصري من النقيض للنقيض في غضون أشهر إلا أن ذلك من ضمن تحولات تدعمها مصالح. وقد لاحظنا تعدد إشارات وكالات التصنيف الدولية ومجلات وصحفا مالية بريطانية وأمريكية وبيوت استثمار عالمية بالاقتصاد المصري في الفترة الأخيرة بشكل ملحوظ ولافت ، بل وربما يبدو مبالغا فيه ،وهنا لا تفسير أيضا إلا المبدأ الذي أسلفته فلا يوجد غذاء مجاني في هذا العالم.

وإذا عدنا بالذاكرة عدة اشهر إلى الوراء فسنجد أن كل تلك المؤسسات والمجلات والصحف ذاتها كانت تتحدث عن الاقتصاد المصري بطريقة سلبية للغاية وبالتالي سيكون السؤال هل حدث تحول جذري في الاقتصاد المصري في الفترة القليلة الماضية يفسر موجة الامتداح الحالية؟ وهل كانت المؤسسات والصحف محقة فعلا حين انتقدت الاقتصاد المصري بشكل حاد وخال من المهنية والتوازن من قبل؟ وهل من الوارد ان تعود تلك المؤسسات والصحف إلى دورة جديدة من دورات انتقاد الوضع الاقتصادي في مصر بعد كل المدح الراهن ؟ أسئلة تدور في أذهان الكثيرين، ومن حقها أن تجد الإجابات الصحيحة. في البداية أشير أولا إلى أن الذهنية المصرية العربية لا تملك وعيا كافيا بالآليات والتكتيكات والاستراتيجيات المعقدة التي تدير بها الدول الصناعية الكبرى -وشركتها المتعدية الجنسية- مصالحها وتوجهاتها سياستها.

قليلون هم بالفعل في العالم العربي الذين يفهمون ذلك ويعرفون كيفية التعامل معه ولا أقول مواجهته لكن الأغلبية في المؤسسات التي تصنع القرار في الهيئات والشركات العامة والخاصة بل وفي أوساط الميديا من يعرفون تلافيف ما يدور في مطابخ القرار بالدول الصناعية الكبيرة التي تبحث أولاً وعاشرًا وأخيرًا عن مصالحها دون أي اعتبار لأي أمور أخرى، ويصل الأمر كما نرى في حالات أمام أعيننا تحطيم وتخريب دول وهويات وأصول قومية من أجل تلك المصالح، وفي هذا الإطار نشير إلى أن الهجوم في الحالة الأولى على الاقتصاد المصري كان ينطلق من عباءة سياسية بالأساس وليست اقتصادية أو فنية أو مهنية. انطلق الهجوم من دول -أو لحساب دول- هي التي صنعت ورعت الإسلام السياسي وجماعات العنف والإرهاب، وكانت تود له/‏‏ لها أن يسيطر على مقاليد الأمور في الدول العربية لأنها ترى أن ذلك يحقق مصالحها أفضل بكثير من تعاملها مع الدولة القومية التقليدية ببيروقراطيتها السياسية والعسكرية والمدنية، وحينما قادت مصر عملية شاملة للإطاحة بهذا التيار كان لزامًا أن يتم انتقاد أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية على النحو الذي رأيناه منذ أقل من عام فضلا عن الانتقاد المستمر للأوضاع السياسية وأوضاع حقوق الإنسان ولما تأكد لهذه القوى الخارجية أن ما حدث في 30 يونيو 2013 ليس مجرد موجة عابرة للتصدي لجماعات الإسلام السياسي وتشابكاتها الإقليمية والدولية المخيفة ولكنه تيار عميق في المؤسسات وفي المجتمع في مصر يسعى لعملية تحديث كبيرة للبلاد تتقدم بسرعة أحيانا وتتباطأ وتنتكس أحيانًا أخرى.. تخطئ وتصيب، لكنها مستمرة. من هنا بدأت اللغة الخارجية تتغير. لا أريد أن يفهم قارئ أبدًا أني أغفل العيوب القاتلة في طريقة الإدارة في مصر، وما نتج وينتج عنها من آثار سلبية كريهة لكن إصلاح هذه العيوب هو قضية المصريين وليس غيرهم كما أن أي طرف خارجي لن يوجع قلبه من أجل إصلاح إداراتنا، فقد كانت الإدارة كما هي الآن في 2005 ومع ذلك انتعش الاستثمار الأجنبي المباشر وغير المباشر على نحو غير مسبوق أو ملحوق في الفترة من 2005 إلى 2010 رغم الأزمة المالية العالمية التي قطعت وتيرة الزيادة نسبيًا. المهم  تتغير اللغة وزادت وتيرة التغير بعد إبرام اتفاق بين مصر وصندوق النقد الدولي يهدف لإصلاح أوضاع المالية العامة والسياسات النقدية والمصرفية وإعادة هيكلة المؤسسات وإصلاح تشريعات الاستثمار ونظم الحماية الاجتماعية وأي ما كان الرأي في الاتفاق مع الصندوق فقد أحدث تحولات في النظرة الغربية تجاه الاقتصاد المصري وبكل تأكيد فقد ربح رجال وول ستريت من دخولهم في أسواق أوراق الدين والبورصة المصرية في الفترة الماضية وسيربحون، إذ من الواضح أن مكاسبهم ستتعزز أكثر في الأشهر المقبلة وهؤلاء يملكون من النفوذ الكثير على مؤسسات الإعلام وعلى النخب السياسية وبيوت الاستثمار الأمريكية وبالتالي أصبح لدينا تفسير إضافي للتحول في لغة الخطاب الأجنبي تجاه الاقتصاد المصري. أمر آخر أن مصر قامت منذ أسابيع بالتعاقد مع شركتين للعلاقات العامة للترويج لمناخ الاستثمار في مصر وإعادة تقديم صورة ذهنية مختلفة عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلاد.

معروف أن كثيرين في الفترة الماضية نصحوا باللجوء إلى هذا الحل (شركات العلاقات العامة الدولية) على أساس أن تلك الإداة التي تستخدمها كل الدول الراغبة في جذب استثمار أجنبي من أصغر دولة وصولاً إلى بلد في حجم الهند بيد أن ليست تلك هي المرة الأولى التي تتعاقد فيها مصر مع شركات علاقات عامة دولية، فقد تكرر الأمر على مدار العشرين عاما الماضية، وكان يأخذ أشكالاً مختلفة من التعاقدات غير أن التركيز فيها كان على السياسة وكيفية التعامل مع أعضاء وقادة الكونجرس ومجلس الشيوخ واللوبيات أكثر من العناية بالشأن الاقتصادي والاستثمار.

ثمة سبب آخر للتحول في لغة الأجانب تجاه مصر واقتصادها هو وجود تحول ملموس في ذهنية الرأي العام وشيوع اللغة النقدية الواعية في الكثير من المحافل -رغم العشوائية في جوانب أخرى- والإصرار المجتمعي على ملاحقة الفساد وعلى تطوير نظم الإدارة والخدمات العامة ورفض الوضع الراهن وعلى أن ينال المواطن المصري ما يستحقه من عيش كريم فضلاً عن الحيوية التي أبدتها وتبديها قطاعات من الشباب والسيدات بشكل مدهش، وقد نال الشباب والشابات المصريين في 2016 وحده عدد مذهل من الجوائز الدولية في السينما والمسرح والغناء والتشكيل والبرمجة والروبوتات والابتكارات، وظهرت مبادرات أعمال فريدة بشكل غير مسبوق فعلا في عدة محافظات ما ينبئ بمستقبل واعد ضخم. ولذلك فان عددًا لا يستهان به من مراكز الأبحاث الاقتصادية والاستثمارية تتنبأ أن تصبح مصر من بين أهم المقاصد الاستثمارية في العالم في السنوات المقبلة.

نعود إلى السؤال: هل يمكن أن ينقلب المادحون إلى ذامون مرة أخرى ومتى وكيف؟. من حسن الفطن أن يكون لكل دولة ولكل مؤسسة سيناريوهات للتعامل مع الأحداث والكيانات الأخرى. فدوام الحال من المحال، وإذا كان الممثل المصري الشهير الراحل خالد صالح قال (المصالح بتتصالح) فالمصالح أيضًا (بتتخاصم). لماذا ؟ حين يكون الهجوم على الاقتصاد المصري أو على هذه الجهة أو تلك في مصر محققا مصلحة أعلى أو أكبر سينالها المهاجم من طرف آخر.  أو قد تدفع ظروف إقليمية أو دولية أو تنافسية إلى تغير في المواقف فالدنيا تتحرك وتتقلب باستمرار والشاطر من يتحسب ويسعى لإطالة أمد المصالح المشتركة وتعميقها مع الغير على قاعدة win- win كما يقولون. وقد يقتضى الأمر أحيانا أن تقدم بعض التنازلات أو تبدي مزيدًا من التشدد حسب الأحوال. والأهم السعي الدائم إلى كسب ود الشعوب الأخرى وعدم الاكتفاء بمخاطبة النخب أو الميديا وأهل السياسة فقط.