أفكار وآراء

التوقعات الحكيمة

08 مارس 2017
08 مارس 2017

مصباح قطب -

[email protected]  -

يزدحم عالم الاقتصاد والمال والأعمال بالتوقعات والتنبؤات والمتنبئين، ويحار المرء فيمن يمشي وراءه أو يسير على هدي توقعه،  فالتوقعات تتضارب أو تتوافق بشكل مريب أو تبالغ أو تقلل ، ولكل أسبابه وحججه، ومن المعروف أن شركات الوساطة المالية الكبيرة يكون لديها عدة أذرع بحثية ، وداخل كل ذراع بحثي متخصصون في الاقتصاد الكلي والجزئي وداخل كل تخصص هناك مهام فرعية فهذا مثلا يتابع قطاع الاتصالات، وذاك يتابع البنوك ، والثالث يتابع شركات/‏‏‏ قطاع الإسمنت وهكذا ، وغالبا ما يكون هدف منتجها النهائي هو خدمة زبائنها وان كانت تتيح للميديا الاطلاع على ملخص هذه التقارير ونشرها سواء بحسن نيه لزيادة الثقافة المالية أو لا أسباب أخرى ، ولا يكاد المرء يلاحق ما يصدر يوميا في داخل بلده أو في الإقليم أو عالميا من تلك الإصدارات ولا يجد الوقت الكافي لقراءتها بعمق وتقييمها وتحليلها ، وأحيانا ما يكتفي بالعناوين شأنه شأن القراء الذين يتلقونها لاحقا على بوابات الصحف الإخبارية منشورة كما هي! ، وهناك معايير تحكم عمل وحدات البحوث المرتبطة بشركات الوساطة المالية وهي ملتزمة بإفصاحات محددة تلتزم بها وتنشر تلك الإفصاحات في نهاية كل تقرير، ولا أريد هنا أن أعود إلى الأخطاء القاتلة العمدية أو غير العمدية التي ارتكبتها وحدات البحوث والتوقعات في بيوت الاستثمار قبيل الأزمة المالية العالمية 2008 وارتكبتها غيرها ولازالت ترتكبها ولكن بتأثيرات اقل بحيث تمضي وقد لا يشعر بها الناس، وإزاء هذا النوع من التوقعات يجب ان تكون هيئات الرقابة المالية شديدة اليقظة وان تتدخل فورا عندما تقرأ بين السطور ما يشير بعملية تلاعب أو تحايل أو تأثير قصدي على السوق. على صعيد آخر تمتلك وزارات التخطيط في كل الدول بل (وإدارات التخطيط الاستراتيجي في الشركات الكبيرة) أيضا وحدات بحوث اقتصادية وباحثين متنوعي الاختصاصات في مجال الرياضيات والتنبؤات الاقتصادية وبناء السيناريوهات بغرض احكام تصميم خطة الدولة أو (الشركة) وحتى تكون افتراضاتها اقرب ما تكون إلى الواقع وقابلة للتحقق في الميدان العملي. هناك أيضا وحدات السياسة المالية الكلية في كل وزارة مالية وواحدة من بين مهامها الأساسية هي تجهيز الافتراضات التي تقوم عليها موازنة العام الجديد ونقصد بها افتراضات مثل سعر خام البترول، سعر صرف العملة المحلية مقابل الدولار أو العملات الرئيسية، أسعار القمح، أسعار السلع الأساسية والمعادن، توقعات النمو العالمي وتوقعات نمو التجارة العالمية ، وهكذا وبطبيعة الحال فإن الوحدة تعتمد علي مصادر عالمية وداخلية موثوقة أو يجب أن يكون الأمر كذلك ، وفي النهاية فان تحقق أو عدم تحقق الافتراضات سرعان ما ينكشف لأنه يتم إصدار تقرير أو تقارير مدققه عن الحساب الختامي للموازنة العامة ومنه يبين مقدار الفروق - إن وجدت - ما بين الافتراضات والتوقعات في الموازنة العامة وبين ما تم فعليا (الختامي ) .

والنقطة التي أود الوقوف عندها هنا هي تأثير العوامل الثقافية والاجتماعية والنفسية علي المسؤولين الذين يكون مطلوب منهم بحكم عملهم بناء توقعات أو الحديث عن توقعات في المحافل العامة ، وقد لاحظت في الحالة المصرية التي أعرفها وجود ميل الى توقع الأفضل عند عدد كبير من المسؤولين وربما أيضا من أهل السياسة والإعلام ، والطريف أن الكثيرين من هؤلاء قد تكون لديهم تقديرات واقعية لكنهم يتغيرون حالما يطلب منهم الإدلاء بآرائهم علنا، وقد يكون من بينهم أناس على ارفع مستوى من العلم والموضوعية ، وتفسير ذلك هو أن قوة الرجاء في الله سبحانه وتعالى تلعب دورا في هذا الأمر (فالرجل أو المرأة) من هؤلاء حين يسأل عن توقعاته للحركة السياحية في العام المقبل أو نصف العام المقبل أو الموسم المقبل فسرعان ما يخلط توقعه العملي بقوة الرجاء الإيمانية هذه ويدلي برأيه .

انه أمر طيب بيقين لكنه أيضا يستحق التأمل فالأمل في رب العباد هو طاقة جبارة ودافعة للاحتمال ولبذل المزيد من الجهد ومواجهة التحديات بصلابة أكبر وهكذا ، لكن يبقى أننا نحتاج أيضا الى من يملك ناصية الأمل والرجاء في الله وان يكبح في نفس الوقت توقعاته لتتفق مع المؤثرات والمعطيات الراهنة والمتطورة فإذا جاء الغد بما هو افضل من ذلك فبها ونعمت وإذا لم يجيء فقد كنا اعددنا انفسنا للأمر.. أقول كل ذلك لأنني حضرت الأسبوع الماضي لقاء بالغرفة الأمريكية للتجارة بالقاهرة أداره انيس اكلمندس رئيس الغرفة وتحدث فيه عمر الجارحي وزير المالية المصري ولفت نظري في حديث الوزير سيطرته المحنكة على توقعاته للاقتصاد المصري حتى عام 2020 - 2021 وعلى سبيل المثال وبينما طال الحديث عن تمني أن تصبح حصيلة الضرائب إلى الناتج المحلي 18% في 2020 ورغم أن ذلك الرقم ظهر في أوراق وكلمات رسمية عدة مرات إلا أن الوزير قال انه يتوقع 16%صعودا من 13% وهو الرقم الحالي، وفي معادلة أخرى كثر ذكرها في الآونة السابقة ، فقد قيل مرارا أن معدل النمو المتوقع في 2021 سيصل إلى 8% لكن الوزير في حديثه أمام الغرفة الأمريكية للتجارة قال انه يتوقع نموا بواقع 6% .

جدير بالذكر أن الوزير نفسه كان قد بادر منذ فترة بخفض توقعات النمو للعام الحالي، كما رفع أيضا معدل العجز المتوقع عما هو موجود في الموازنة العامة ليصبح 10.2% بدلا من 9.8 % . أريد بذلك أن انوه الى حذر في بناء التوقعات والتقديرات بناء على تفاعل يومي مع مؤشرات المالية والضرائب في الوزارة أي أن الوزير لم يكن حذرا أمام أعضاء الغرفة الأمريكية للتجارة ومن بينهم أجانب فضلا عن مدعوين من سفارات مختلفة فقط ولكنه منهج عمل بالنسبة إليه وهو نتاج خبرة واقعية عميقة بلا شك ومن شأن نهج اعقلها وتوكل هذا - أي خذ بالأسباب واترك الباقي على الله - أن يشيع في الدوائر المختلفة ثقافة مراجعة التوقعات مرة واثنتين وثلاثا قبل إعلانها على الرأي العام ، وحتى لا يتم تغييرها بسرعة فيقلل ذلك من مصداقية المؤسسات الحكومية أمام الأسواق وأمام المجتمع .

التوقع هو فعلا علم وفن وحدس وخبرة وبالتالي فما أكثر المتنبئين وما أقل أصحاب التوقعات الذين ينطبق عليهم التعريف السابق ، واني لأتمنى أن تعقد في كل دولة أو في كل قطاع بالدولة مؤتمرات في أوقات مناسبة لمراجعة توقعات سابقة وبيان مدى تحققها من عدمه ، حتى يزيد المتوقعون من تجويد صنعتهم وحتى يختفي الدخلاء على المهنة فمساءلة التوقعات هي جزء مهم من بنيان صناعة التوقعات المنضبطة وحين تقوى المساءلة سيحسب الذين يراهنون على نسيان الجماهير ألف حساب قبل أن يطلقوا توقعاتهم.