شرفات

تودوروف.. وماهية العالم

27 فبراير 2017
27 فبراير 2017

آمنة الربيع -

(1)

هل العالم اليوم، مادة أم روح أم عقل أم شعور؟ هل هو كائن حي قادر على الحياة أم جثة غارقة في غيبوبة؟ هل العالم عبارة عن نصّ أدبي مكتمل النضج أم أنه نص يتوسل بالمحاكاة لبناء علاقاته مع العناصر والحكايات من حوله؟ وهل من غاية نبيلة أو حقيرة يتوّسم الأدباء وبالضرورة النقاد الوصول إليها، وهم يسبرون أغوار الكتابة الإبداعية في عالم تبدو علاقات التضاد وعلامات الانهيار فيه أكثر تماسكا من الحُلم ومن جميع أنواع الفنون؟

من الضروري الإفصاح هنا بسرعة عن أنني لا أكتب عن العمل الأدبي، شعرًا أو سردًا، فمقالتي مقتصرة على تناول تلك العلاقة الجدلية الفاتنة بين تأثير جغرافيات العالم وسياساته وفلسفاته، على الكتابة الإبداعية المُنجزة، سواء كانت مسرحية أو رواية أو قصة قصيرة أو على الفنون التشكيلية. ولهذا السبب، رأيت في الأقوال والترجمات واللقاءات التي تناولت الفيلسوف الراحل عن زمننا تزفيتان تودوروف (1 من مارس 1939- 7 من فبراير 2017م) مدخلا مناسبا لطابع العصر الإمبريالي وتحولاته، كما وجدته صيدا ثمينا؛ لكنه ليس من الأهداف المتيسرة التناول، برغم شعورنا الثقافي وربما (الاحتياجي-من الحاجة- لأمثاله في عالمنا) من قربه منا، فبوفاته لا شك أننا خسرنا فيلسوفا ومفكرا وناقدا كبيرا مناصرا لأفكار التنوير والعدالة والحرية والعقل.

حدثان رئيسيان يجعلاني أسارع إلى الاعتقاد أنهما يصلحان كمدخل لتأمل وضعية تودورف ومواقفه، حيث أسس عليهما، بحسب تصوري، بعض اعتباراته الفلسفية والفكرية والاجتماعية، دون إغفال طبيعة السجال الفكري والسياسي في داخل فرنسا. الحدث الأول أحداث 11 من سبتمبر عام 2001م بانهيار برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك. هذا الحدث الذي كما وصفه جاك دريدا (1939-2004م) في كتابه (ماذا حَدث في حدث 11 من سبتمبر؟) الصادر عن دار توبقال للنشر 2006م، أنه « قد جاء إلينا عبر وسيط هو آلة تقنية اجتماعية- سياسية جبارة... وأنه لا بد له من الآن فصاعدا أن يظل شيئا من المستحيل نسيانه: فهو حدث لا يمكن محوه من الأرشيف المشترك لتاريخ عالمي- أو من المفترض فيه أن يكون عالميا»؛ وهنا، كما يبدو لنا، أن أصطلح عليه بحرب الخليج الأولى (العراقية- الإيرانية 1980-1988م)، وحرب الخليج الثانية (عاصفة الصحراء وتحرير الكويت1991م) هما حربان تخصنا وحدنا ولا تكتسبان صفة العالمية!

أمّا الحدث الثاني فيتعلق بأحداث ما اصطلح عليه بالربيع العربي 2011م. وأزعم أن كتاب تودوروف (الخوف من البرابرة: ما وراء صدام الحضارات) من أحد كتبه المهمة المتصلة بالسياسة المعاصرة حيث يطرح فيه دعوة صريحة إلى تأمل الحرية التي قد تشكِّل خطرا على الديمقراطية.

تعددت اشتغالات تودوروف الفكرية، ولكنها أشبه بمشروع احتجاجي تنويري ضد الحروب ومحاولات الإقصاء التي يسوقها الأوروبي المتفوق سياسيا واقتصاديا وعسكريا تجاه الشعوب الأخرى. وهي بلا شك، نظرة عنصرية لا تقتصر على الأوروبي المتعالي تجاه الآخرين؛ ففي هذا السياق شهدت بعض حواضر التجارب المجتمعية العربية انتقال هذا المرض الهالك (عقدة التفوق والازدراء) إلى مراكز التنوير العربي، فإذا كان الأوروبيون لم يتحرروا بعدُ من عقدة البطل (السوبرمان ورامبو وشوارزنجر)، فإنّ مراكز النهضة العربية أخذت تستحوذ عليها الحماقة فزحف متحمسوها نحو حيازة ذلك المرض الهالك تحت مسميات هالكة لا محالة.

حينما نظر تودوروف إلى سلسلة أعمال الفنان (فرانثيسكو غويا 1746- 1828) وتصاويره الفنية وروسوماته، وعلى وجه الخصوص سلسلة تصاوير (خراب الحرب) أطلق عليها ما أسماه (خراب السّلم) فبالنسبة إليه، فإنّ غويا «واحد من المحللين الكبار لعصره، والشارح الرؤيوي للجانب المظلم من الأنوار» وقد حصر غويا تلك التصاوير في منظومة «القهر الذي كابده الشعب الإسباني أثناء فترة الإصلاح، حين استعادت محاكم التفتيش قواها واستأنفت الاضطهاد»، وحسب تقديري، أن وصف تودوروف الدقيق تصاوير غويا بخراب السّلم، يمكن أن ينطبق كما أرى على نتائج الحدثين الرئيسيين االسابقين.

كتب جون ليشته أحد تلامذة الناقدة جوليا كرستيفا في كتابه (خمسون مفكرا أساسيا معاصرا من البنيوية إلى ما بعد الحداثة) مؤكدا على نقطة أو فكرة أطلقت عليها (المشروع التنويري والنقدي) لدى تودوروف قائلا: «انطلاقا من القضية القائلة بأن على الباحث أن يكون منخرطا في موضوع دراسته- عليه أن يدخل في حوار معه- شرع تودوروف في سلسلة من الأعمال تناولت الطريقة التي ارتبط بها التاريخ والثقافة الفرنسية والأوروبية مع الآخر أو لم يرتبط»، وتبدو لحمة هذا الاشتغال على المشروع النقدي محفزة جدا، بل ودافعة لقراءة جّل ما أنجزه تودوروف في حقلي الثقافة والنقد ومآلات الديمقراطية.

(2)

كانت سنة 1965م، سنة مثمرة بالنتاجات النقدية الأوروبية. فالقدر الذي ساهم به الفيلسوف الأندلسي ابن رشد 1126م-1198م في شرح وتفسير فلسفة أرسطو في أوروبا القرون الوسطى، لا يقل في تقديري أهمية عن القدر الذي أسهم به تودوروف حينما قام بترجمة مبادئ نصوص الشكلانين الروس وغرسها في تربة الفضاء الثقافي الأكاديمي بفرنسا، وانتقالها فيما بعد إلى فضاءات الممارسة النقدية العربية.

بين الأعوام 1915- 1930م انبنت الشكلانية الروسية وتطورت في موسكو العريقة؛ مدينة الفنون والإبداع بصنوفه المختلفة على يد عدد من الباحثين أمثال (ايخنبوم، وخلوفسكي، وشكلوفسكي، وجيرمانسي، وفينوغرادوف، ورومان جاكبسون، ورولان بارت) قبل إعلان هذين الأخيرين التمرد والخروج على شكلانية موسكو العتيدة، بإعلان جاكبسون تأسيس مدرسة براغ، وإنجازات بارت حول الشاعر راسين ولذة النصّ.

وقد تركت الشكلية مع مصطلح الأدبية أثرًا إشكاليا ونزعة فيما أصطلح عليه بالنقد الجديد قبل الانتقال إلى ما بعد الحداثة، فركزت الشكلية شعريا على «النصوص ذات الثراء اللغوي، والإيقاعات الحسيّة التي تلح على التلاحم بين الدال والمدلول والعين، وآثروا الشعر لأنه ساحة مميزة للعبة البحور والوزن والقافية... وفي الرواية، ميزوا بين القصة والحبكة؛ أي المادة الروائية وأسلوب عرضها البنيوي».

وإذّ لا وجود لشكلية أو شكلانية خالصة، فلا وجود بالضرورة لنظرة أحادية نقدية أو رأيا سياسيا قطبيا واحدا، لا تجاه الناس، ولا تجاه العالم، وبالضرورة لا تجاه النصّ الأدبي. وهذا ما نفهمه في سياق الجدلية بنوعيها المادية والتاريخية. ولكننا عندما ننظر إلى عالم اليوم وترسانة الإمبريالية التي تتحكم به، وبتأمل الرأسمالية التي تطحننا علاقاتها الإنتاجية المربكة والمقلقة تأثيراتها على الجانب المعيشي للبشرية، يتصدر مشهد وجهة النظر العالمية تجاه الشعوب الأقل تحضرًا قائمة القضايا الخلافية والحوارات البينية (الشرق والغرب، الإسلام والمسيحية، الديمقراطية أو اللاديمقراطية). وفي ظل غياب شكلانية خالصة، فلا وجود بالفعل إلا لعوالم «متداخلة»، و«متعالقة كقشر البصل المتعالق» بتعبير جوليا كرستيفا، والغاية من السرد هنا، تقديم «المعنى» لكل هذا العالم، وما يعنيه لنا.

سأعود إلى ما بدأت به: إذا نظرنا إلى العالم كنص أدبي مكتمل النضج وشهي الإلتذاذ، وبتعبير الشكليين فالنص أو العمل الأدبي له نظام ومنطق معينين، وينتظم عملهما وفق سيرورة أدبية لها بنية داخلية محكمة التماسك، وشديدة الإغواء. ولا أحدا يقدر على استنباط المعنى إلاّ القارئ الواعي ببواطن السرد والمتمرس في القراءة، وأمّا «التأويل» فمهمة يقوم بها الناقد. على نحو من الأنحاء، إلى أي حد يمكن أن يصلح هذا الطرح على العالم الذي يقف خارج النص؟ على الجغرافيا ومصالح السياسات المدنية والعسكرية؟ إنّ العمليات الفنية التي يتكون بها عالم النص الأدبي الإبداعي ليحقق لنا معجم السرديات العجيب، ليس من الممكن استثماره في تتبع علاقات القوى التي تتحكم بتوجيه العالم وكأنه (شركة أو مزرعة) للتجارة فقط. في السرديات عموما، هناك لغات وأزمنة وأمكنة وشخصيات مكشوفة وأخرى مرئية، وظيفتها أن تخلق لنا متعة غير مبتذلة ولا رخيصة، وأن تعزز بداخلنا في هيئات القراءة ووضعياتها المتباينة قيمة وجودنا كبشر لنا آدميتنا وكرامتنا، كما لنا قوتنا وضعفنا، لكن هذا يحدث في السرديات؛ أما عالم اليوم الذي غابت عنه فلسفة التنوير وقيم العدالة الاجتماعية والحرية الفكرية في مقابل المجاهرة بالعنصريات والطائفيات والاضطهاد والتجويع والإرهاب والتهجير والظُلُمات والوحل كلها وضعيات مرئية لنا. فما هي قصة هذا العالم وماهيته؟ وإلى أين تقودنا تكتلاته وجنون السياسة والصراع على النفوذ؟ إنّها، ببساطة، قصة خلقه من جديد. وإذا سلَمنا بذلك، فما الأسس السردية التي سيستند عليها خلق العالم؟ هل ستكون أسس (مورفولوجيا الحكاية الشعبية) وعناصرها التي استخلصها فلاديمير بروب (1895-1970م) مثلا؟ أو أسس الواقعية السحرية؟ أو أسس ميثولوجية غارقة في البدائية والوحشية؟ أسس يهودية أم مسيحية أم إسلامية أم ماذا بالضبط؟ لا أملك إجابة، لكني أسعى لتأمل هذا العالم، وبتعبير الشاعر الحزين لوركا: أنا لا أتدخل في السياسة، ولكني أدافع عن ابتسامتي..