شرفات

بعبارة أخرى: كم في البال من مقاهٍ

27 فبراير 2017
27 فبراير 2017

د. حسن مدن -

حفزتني أمسية أقامتها أسرة الأدباء والكتاب في البحرين قبل أيام عن المقاهي كفضاء للسرد، على العودة للعلاقة اللافتة للانتباه بين المقاهي والناس.

ولا أعلم لماذا أطلقت أجيالنا الأكبر هنا في بلدان الخليج تسمية «القهاوي» على الأماكن التي كان الناس يرتادونها لتمضية الوقت وتجاذب أطراف الحديث مع الأصدقاء والمعارف ولعب الورق، مع أنهم في الأساس كانوا يشربون الشاي فيها لا القهوة. فيما كلمة المقهى مشتقة تحديداً من كلمة القهوة، هذا طبعاً قبل أن تسود المقاهي الحديثة التي تحمل أسماء ماركات القهوة المسجلة، خاصة مع انتشار المجمعات التجارية والاستهلاكية الضخمة

يذكر الباحثون أن عادة شرب القهوة في المقاهي دخلت إلى مدينة عريقة كدمشق مثلاً عن طريق الصوفيين الذين نقلوا العادة بعد أن تعرفوا عليها خلال زياراتهم للقاهرة في بداية النصف الثاني من القرن السادس عشر.

والمقهى في العواصم العربية طقسٌ يختلف باختلاف المكان والملابسات التاريخية. وكان رواد المقاهي في العديد من البلدان العربية إذ يحتسون القهوة المُحضرة على الفحم ويُدخنون الأراجيل يصغون إلى الموسيقيين والقصاصين. ويبدو أن فكرة مسرح الحكواتي، كما هي في تجربة اللبناني روجيه عساف، إنما انبثقت من فكرة حكواتي المقاهي بالذات، ومن ذلك أن مسرحية سعد الله ونوس «رأس المملوك جابر» تستند في بنائها المعماري على حكاية يرويها الحكواتي في أحد المقاهي الدمشقية.

وبصفةٍ عامة كان المقهى يشكل نبض المدينة، ففي أحاديث رواده يمكن التعرف على ردود فعل العامة تجاه ما يدور في البلد من أحداث.

بين المثقفين والمقاهي ألفة من نوعٍ ما، وهناك أسماء لمقاهٍ مشهورة في العواصم العربية، كمقهى «ريش» في القاهرة أو مقهى «الهافانا» في دمشق، أو مقهى «الهورس شو» في شارع الحمراء ببيروت في «الزمانات» قبل أن تعصف الحرب الأهلية بلبنان.

وبعد أن تحول «الهورس شو» إلى مطعم صغير للوجبات الصغيرة حين هجره المثقفون، قام أحد المستثمرين الذواقين بافتتاح «مقهى المدينة» ليكون صورة لقيام بيروت من خرابها، وزيَّن صاحب المقهى جدرانه بصور لكتابٍ وأدباء وشعراء من الذين مثلوا حركة الثقافة العربية. بينهم بلند الحيدري وميشيل أبو جودة ومعين بسيسو وسواهم.

لم يسلم مصير مقهى «المودكا» الشهير على مفرق البيكاديللي بمنطقة الحمرا من المصير المؤلم للـ«هورس شو»، حين تحول، هو الآخر، إلى محل لبيع الملابس، وفي يومه الأخير، قبل إغلاقه قبل سنوات، كتبت الصحف اللبنانية كلمات وداعية مؤثرة عنه، كأن اللبنانيون يودعون فلذة من تاريخهم الثقافي.

ومع أن هذه المقاهي كانت ضجت بحوارات ثقافية وفكرية، إلا أنها مع ذلك لم تخلُ من أمراض المثقفين وأجواء النميمة والحسد التي تسودهم. زياد الرحباني في أحد مشاهد برنامجه الإذاعي الشهير الذي كان يقدمه في السبعينات من القرن الماضي: «بعدنا طيبين .. قول الله»، سخر من نمطٍ من مثقفي الكلام والتنظير وإطلاق الأحكام الذين «يكبكبوا فناجين القهوة في المقاهي» على حد تعبير زياد فيما هم بعيدين عن الفعل والتأثير.

للعشاق أيضاً مقاهٍ، تتسم عادة بأنوارها الخافتة وزواياها الحميمة وموسيقاها التي تنسج خيوطاً من وهجٍ وحنان، وغالباً ما ترسخ ذكريات هذه المقاهي في الذاكرة مع تقدم العمر، بحيث إنك لو أتيتها بعد زمن ووجدت فيها عشاقاً آخرين «زغار» على رأي فيروز، لانتابك الحنين لأزمنة مضت ولكنها حفرت ذاكرتها في الوجدان.

في أي مدينة أوروبية عريقة بإمكانك أن تشرب فنجان قهوتك في مقهى جلس عليه أبطال روايات كبرى قرأتها، أو تتناول غداءك في مطعم من المطاعم التي مرّ عليها هؤلاء الأبطال، وبإمكانك أن تعثر في سانت بطرسبورج على أماكن دارت فيها أحداث روايات ديستوفسكي وتولستوي وغوغول وسواهم، لو زرتها لوجدت الكثير من التفاصيل التي وردت في الروايات باقية على ماهي عليه، فتنتابك الغبطة الآتية على الأغلب من الشعور بأنك تقيم، تلك اللحظة، في زمنين: ماضٍ وحاضر.

ما يقال عن سانت بطرسبورج يمكن أن يقال عن باريس ولندن وبرلين. بل أن الناس ما زالت تعرف الزاوية التي كان جان بول سارتر يفضل الجلوس فيها في المقهى الذي يتناول فيه افطاره، حيث يتحلق حوله المريدون.

يحرص القائمون على تلك المدن أشد الحرص على العناية بتلك الأماكن وذاكرتها، ليس فقط لأن الأدباء أو الفنانين مروا فيها، وإنما يأتي ذلك ضمن استراتيجية شاملة للحفاظ على ذاكرة المكان، فالمقهى يظل مقهى، والمطعم كذلك، حاملاً الاسم نفسه الذي كان له منذ قرن أو قرنين.

قبل سنوات قليلة توقف الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي في أحد أعداد مجلة «دبي الثقافية» أمام «مقهى ريش» الشهير في وسط البلد بالقاهرة، الذي يحتل حيزاً عزيزاً في الذاكرة الثقافية والفنية المصرية، حيث كتب مذكرا إيانا بالتاريخ العريق لهذا المقهى الذي بدأ حياته في السنة التي دخلت فيها مصر مرحلة جديدة من تاريخها فترة الحرب العالمية الأولى، ليصبح لا مجرد مقهى وإنما ورشة عمل وفكر انخرط فيها خيرة مثقفي مصر وفنانوها.

صاحب هذا المقهى رحل، وعبر حجازي عن خشيته من أن يلحق المقهى العظيم بصاحبه فيختفي، متسائلا ما إذا كان بالإمكان إنقاذه قبل فوات الأوان.

ولا نستطيع أيضا أن نتصور دمشق من دون مقهى «القنديل» الشهير الذي كان يضج بالحوارات والنقاشات الصاخبة للمثقفين والمبدعين الشباب، يوم كان والت وايتمان ورامبو ونيرودا محاور النقاش والجدل، والقول نفسه يصح على مقهى «الهافانا» الشهير.

وأي زيارة لطنجة، إطلالة المغرب على أزرق البحر المتوسط الفاصل بينها والأندلس، من دون زيارة مقهى الحافة ستكون ناقصة. لا أظن أن مقهى في الدنيا ينطبق عليه اسمه كما هذا المقهى . الحافة: حافة المدينة، حافة البحر، حافة الحلم. ما من فاصل بين البحر وبين المقهى لحظة شيَّده صاحبه البا محمد عندما كان شاباً فتياً عام 1914 . لو نزلت الدرجات الطويلة التي أقامها من الصخر وأحاطها بالأشجار، لأدركت البحر في أسفله .

وطنجة متوغلة في تاريخنا، فهي نقطة انطلاق نحو عوالم قرأنا عنها في الكتب . لكن أن تكون على أرضها فإنك في وضع يمكنك من الإمساك بزمنين، ماضٍ وحاضر . بوسعك تخيل تفاصيل حكاية تقول إن طارق بن زياد كان يجلس على حافة الشاطئ، ليس بعيداً عن مكان هذا المقهى، ويحدق في البيوت التي تظهر في الأيام الصافية كطيف على الضفة الأندلسية ليشغله الفضول نحو اكتشاف ماذا هناك، قبل أن يرسله موسى ابن نصير إلى حيث حلم، وبوسعك تخيل ابن بطوطة، وهو من أهالي طنجة، كيف أبحر، هو الآخر، من مكان ما من هذا الشاطئ، قريب أيضا، قاصداً الحج، لكنه في الطريق إلى هناك طاف العالم، ليصبح فتحاً في عالم الرحلات والرحالة الذين أرخوا للمدن والأمصار والأقوام .

كاتب طنجاوي موهوب، هو الزبير بوشتي، عدّد أسماء بعض المشاهير الذين أتوا إلى الحافة، وجلسوا بمحاذاة المصاطب الصخرية التي منها أقيم على طاولات بسيطة متآكلة، وشربوا شايه المنعنع فيما أعينهم على البحر الساحر: روائيون ونقاد ورسامون وحالمون، أسرت طنجة الكوسموبوليتية قلوبهم، فأقاموا فيها، أو انتابهم، وهم يغادرونها، ما انتاب أبا فراس الحمداني وهو يغادر حلب فأنشد: أسير عنها وقلبي في المقام بها كأن مهري لثقل السير محتبس .

إلى المقهى أتى جان جينيه ، وبول بوولز، والبيرتو مورافيا، وصامويل بيكيت، والطاهر بن جلون، وبالتأكيد المشاغب بإبداعه محمد شكري، وإلى المقهى أتى في واقعة تاريخية تكاد تكون مجهولة الزعيم اللبناني الأمير شكيب أرسلان حيث اجتمع خلال الساعات الأربع والعشرين التي سمح له الفرنسيون بالبقاء في المدينة خلالها بزعماء المقاومة المغاربة خلف أشجار المقهى.