شرفات

وحيد الدين خان .. مفكر برؤية علمية منهجية «2» علم الكلام الجديد كيف يتأسس؟

06 فبراير 2017
06 فبراير 2017

918327

وحيد الدين خان[/caption]

عبد الله العليان -

أهتم العلامة وحيد الدين خان بقضية علم الكلام في العصر الحديث، واعتبره من الطرق والوسائل التي يجب يهتم به في هذا العصر،لكن بأدوات جديدة، وليس بتلك الوسائل استعملها الأوائل من علماء الكلام، من المعتزلة وغيرهم في العصر العباسي وما بعده، وقد أشار إلى هذا في التمهيد لكتابه (الإسلام يتحدى)، حيث يرى أن المهمة التي نراها جديرة بالاهتمام أن من يتصدى لنقد الفكر الحديث دون فهم موقفه من القضية. وهناك نوع آخر من علمائنا يدركون موقف الفكر الحديث من قضية الدين، ولكنه لشدة تأثرهم بالفكر الحديث يرون أن كل ما توصل إليه أئمة الغرب يعد من (المسلمات العلمية)، ومن ثم تقتصر بطولتهم على إثبات أن هذه النظريات التي سلم بها علماء الغرب هي نفس ما ورد في القرآن الكريم وكتب الأحاديث الأخرى. وهذه الطريقة في التطبيق والتوفيق بين الإسلام وغيره هي الطريقة نفسها التي تتبعها شعوب الحضارات المقهورة تجاه الحضارات القاهرة. وأية نظرية تقدم على هذا النحو يمكنها أن تكون تابعة ولكنها لا يمكن أن تكون رائدة! ولو خيل إلى أحدنا أنه يستطيع أن يغير مجال الفكر في العالم بمثل هذه المحاولات التوفيقية ليشرق على البشرية نور الحق فهو هائم ولا شك في عالم خيالي لا يمت إلى الحقائق بسبب..فإن تغيير الأفكار والمعتقدات لا يأتي من طريق التلفيق، بل عن طريق الثورة الفكرية. وهذه الحالة تورطنا بصورة أكبر عندما تتعلق المسألة بجانب أساسي ومهم من أفكار الدين، فلا بأس بأن يقوم أحدنا بتفسير جديد لظاهرة (الشهاب الثاقب) التي وردت في القرآن حين يجد كشفا جديدا في علم الفلك الحديث ولكننا لو قبلنا نظرية كلية شاملة وذات علاقة بالمشكلات الأخرى التي تثار حول الدين فسوف يكون لذلك تأثير عميق وكلى في هيكل الفلسفة الدينية نفسه» وأضاف في فقرة أخرى من هذا التمهيد توضيحا في هذا الكتاب ورؤيته الجديدة. ومن ناحية أخرى لابد من توضيحها هي أن الأسلوب الذي سلكه الكتاب قد يكون غريبا على بعض الأذهان من علماء الدين، وإذا كان الأمر كذلك فإني أقول: إنه لابد من مراعاة حقيقة هي أن هذا الكتاب لا يستهدف تفسير الدين بل هو وليد ضرورة كلامية، فالأسلوب الذي يسلك عند تفسير الدين أمام أصحاب الفطر الدينية المؤمنة غير الأسلوب الذي يستخدم عندما يكون الحاضرون ممن يزعمون أن الدين خدعة وأضحوكة وتخدير للشعوب، فكلما أردنا مواجهة الأسئلة التي تثار ضد الدين، كان لابد من تغيير لهجتنا ولغتنا بتلك التي يستغلها الأعداء حتى نستطيع أن نقف أمام العواصف. وعلينا ألا ننسى أن طريقة الكلام وأسلوبه قد يتغيران بتغير الزمن، ولذلك علينا أن نأتي بعلم كلام جديد لمواجهة تحدي العصر الحديث».

ولا شك أن هذا الكتاب من الكتب التي سارت في هذا الاتجاه المنهجي القويم، حيث جاء الطرح جديداً في مناقشته لبعض الأفكار الغربية، وهي ضمن رؤية كلامية، لكن بأسلوب يختلف عما استعمله القدماء من المعتزلة كما أشرنا آنفاً، عندما انفتح المسلمون على الفلسفات والأفكار عند الحضارات القديمة، قبل الإسلام، وهذا ما سلكه العلامة وحيد الدين في كتبه خاصة (الإسلام يتحدى)، و(الدين في مواجهة العلم)، و(الإسلام والعصر الحديث)، حيث كانت ردوده علمية منهجية وواعية بالأفكار التي ناقشها في الكتب، خاصة تلك التي تفّسر الحياة تفسيراً مادياً، ويقول المفكر العراقي المعروف، عبد الجبار الرفاعي في بحثه، (علم الكلام الجديد)، أن «العالم الهندي المسلم وحيد الدين خان في مقدمة كتابه (الإسلام يتحدّى) المبررات التي دعته لتأليف كتابه هذا، فشدّد على ضرورة التحرّر من منهج علم الكلام القديم، لأن (طريقة الكلام وأسلوبه قد تتغيران بتغير الزمن، ولذلك علينا أن نأتي بعلم كلام جديد لمواجهة تحدّي العصر الحديث). وقد استطاع وحيد الدين خان وصل ما بدأه المفكر المسلم محمد إقبال من قبل في (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، فكان كتابه (الإسلام يتحدّى) إنجازاً رائداً في تشييد الكلام الجديد، إلاّ أنه ظلّ مهملاً في المشرق الإسلامي، فلم يهتم به الباحثون، مع أنه تُرجم إلى العربية ونشر قبل ثلاثين عاماً.

وبعد ذلك بسبعة أعوام أصدر وحيد الدين خان كتابه الكلامي الثاني (الدين في مواجهة العلم)، وأردف بعد مدة بدراسة أعدّها بعنوان: (نحو علم كلام جديد)، ألقاها في ندوة (تجديد الفكر الإسلامي)، التي عقدتها الجامعة الملية الإسلامية بدلهي في 27 ديسمبر 1976م». كما عبّر هذا التوجه صاحب التقديم لكتاب (الإسلام يتحدى)، د/‏عبدا لصبور شاهين، الذي يرى أن «أخص صفات عصرنا هي أنه ينتج من الأفكار بقدر ما ينتج من الأشياء، وليس من الضروري أن نتطلب من الأفكار المنتجة أن تكون نافعة دائما كالأشياء، فإن المجتمعات التي تصدر إلينا أشياء الحضارة ترى في الأفكار سلعة ينبغي أن تتغير كل يوم كما تتغير طرز الأشياء ولذلك يقف مثقفونا مبهورين أمام موجودات الفكر الواردة من الخارج ماذا يأخذون؟ وماذا يدعون؟ بل قل: ماذا يقرأون؟ وماذا يترجمون؟... ولا شيء أكثر من هذا... يكفيهم أن يستطيعوا ملاحقة الأفكار دون أن يكون عليهم أن يواجهوها، أو ينقدوها، فهم إلى أن يصوغوا نقدا معينا لأحد الاتجاهات الجديدة نسبيا يكون الوقت قد فات، وتقادم بمرور الزمن من ينقدون، وغطت عليه أفكار أخرى أشد لمعانا وأكثر جاذبية وإشعاعا. ومما لا شك فيه أن العالم الإسلامي هدف ثمين من أهداف- تصدير- الأفكار، نظرا إلى موقعه وخطورة موقفه بين الكتل المتصارعة، أو بعبارة أخرى: مراكز الإنتاج، والهدف من وراء التصدير واحد لدى كل هذه المراكز: أن يبقى هذا العالم مفتقرا إليها على اختلافها، وأن يحال بينه وبين أفكاره الأصيلة التي يمكن أن تغنيه عن الاستيراد، وتحقق له الاكتفاء الذاتي». ولا شك أن هذا العالم الكبير فيما طرحه من رؤى جديرة بالتقدير، يرى إن المعقولات الفلسفية البشرية تعتبر قياسية، وفق الظروف المتغيرة بتغير الزمن، بينما لا ينطبق هذا على المعقولات القرآنية والكونية، ويرى العلامة وحيد الدين في كتابه (الإسلام والعصر الحديث)، «إن أسلوب الاستدلال القرآني هو أسلوب كوني طبيعي، فالقرآن يستدل على الوقائع غير المحسوسة على الوقائع المحسوسة. وأساس علم الكلام القرآني يقوم على القوانين الأرضية والسماوية الثابتة التي لا تغير، لذلك فان علم الكلام القرآني ثابت لا تغير. ومن الصحيح القول ان علم الكلام القرآني، مثل العقائد القرآنية، ثابت لا يتغير. لكن حين دُوّن علم الكلام على أساس العلوم البشرية أصبح عرضة للقدم والجدة، لأن هذه العلوم كانت مبنية على القياس وبالتالي متغيرة».

والآن، كما يقول العلامة وحيد الدين خان،«في النصف الأخير من القرن العشرين، أصبحنا إلى حد كبير، قادرين على تدوين علم كلام بصورة قطعية وآفاقية. إن عالم الطبيعة وعلم الطبيعة كانا شيئين مختلفين في الزمن القديم، فعالم الطبيعة كان يقوم على الحقائق بينما كان أساس علم الطبيعة على صعيد واحد، وهكذا كان القرآن وعلم الكلام القديم شيئين متغايرين. فبينما كان القرآن يحتوي على الآيات المحكمات كان علم الكلام مبنياً على قياسات الفلاسفة. إن تطور العلم قد مكننا اليوم من وضع علم كلام متناسق مع القرآن. وإذا كان هناك من شيء يسمى بعلم الكلام الجديد فهو هذا العلم الذي لم يدوّن بعد، بالرغم من توفر المواد وشدة حاجتنا إليه لسد الفراغ الفكري الذي يعاني منه المسلمون بصفة عامة، وغير المسلمين بصفة خاصة. إن أول عمل مطلوب منا هو صياغة نظرية علمية قائمة على أسس قرآنية، وأعني نظرية الأسلوب الاستدلالي. فالقياس كان يقوم في الزمن القديم على المفروضات والمسلّمات. وفي المراحل الأولى من ظهور الأساليب الحديثة للتحقيق والتجربة أكدوا على أهمية (المشاهدة). والعمل الثاني المطلوب منا هو تدوين علم الآثار القرآني. فالقرآن يشير إلى الأنبياء والحضارات القديمة. وهذا الجزء من القرآن يسمى «بأيام الله». وهذه الأحداث التاريخية جدُّ هامة من وجهة نظر القرآن. والعمل الثالث المطلوب هو تدوين «آيات الآفاق» باستغلال الاكتشافات العلمية الجديدة. فالقرآن يشير مرة بعد مرة إلى آيات الكون التي تشير إلى خالقها وتوضح حكمة الله وراء خلق العالم، والقرآن يستخدم هذه الآيات الكونية لتوثيق دعوته، إلا أن هذه الإشارات إجمالية، والحكمة في إجمالها أن الإنسان القديم لم يكن يعرف كثيراً عنها ولذلك لم يكن ليفهمها لو فُصِّلت له ولكان قد دخل في متاهات تبعده عن الهدف الحقيقي للوحي، ألا وهو هداية البشر وإنذاره من يوم الحساب القادم، والآن قد تجمعت لدينا مواد مفصلة عن تلك الإشارات القرآنية، بفضل تطور العلوم الطبيعية.

ويرى العلامة وحيد الدين خان، في نقده لبعض الاهتمامات الإسلامية بعلم الكلام، أن مجالات العلوم الاجتماعية كالقانون والسياسة والاقتصاد، وغيرها من العلوم الأخرى القريبة منها، «كتب حولها الكثير في الزمن الحديث، إن ذخيرة العلوم الاجتماعية مفيدة من جوانب عديدة، ولكنني من الناحية المبدئية لا أؤيد إدخال العلوم الاجتماعية إلى دائرة علم الكلام. والسبب في ذلك- كما يقول وحيد الدين- نوعية العلوم الاجتماعية، فهي كلها علوم قياسية وأغلب الظن أنها ستظل قياسية. فلو استخدمناها في علم الكلام لارتكبنا مرة أخرى، الخطأ ذاته الذي ارتكبه متكلمو العصر العباسي الذين أسسوا علم الكلام على القياسات الفلسفية، بينما نحن سندوّن علم الكلام على القياسات الاجتماعية. لذلك أرى- والكلام لوحيد الدين خان- أن تدخل العلوم الاجتماعية في دائرة اختصاص الفقه وليس في دائرة علم الكلام. أن العصر الحديث، كما يشير وحيد الدين، يمتاز بحرية الرأي والفكر، والإنسان الحديث يريد أن نقدم له المعلومات بدون إضافات تفسيرية وكلامية ويترك له التقييم». ولا شك أن رؤية وحيد الدين خان جديرة بالاهتمام، من حيث إيجاد رؤى جديدة لعلم كلامي جديد، يتناسب ويتفاعل مع عصره وتحولاته الفكرية والعلمية، فعلم الكلام القديم، مع المعتزلة وغيرهم من المتكلمين القدماء، كانت كلامهم يتوافق مع فلسفة ذلك العصر وفكره وقضاياه ولعبوا دوراً مهماً في محاججتهم لخصومهم بفكر ذلك العصر وقضاياه، وهذا العصر يختلف اختلافاً كثيرا عن ذلك العصر في جوانب كثيرة، وأهم الأشياء التي يجب أن تكون طريقاً لعلم جديد للكلام، هو تجديد المنهج وأسلوبه، لأنه حصلت الكثير من التغيرات، أو كما يسميها البعض انقلابات في منهجية التعاطي مع الأفكار والتطورات التي حدثت من حيث التحولات الفكرية والعلمية، وهذا ما أكد وحيد الدين في كتابه (الإسلام والعصر الحديث).. وللحديث بقية...