أفكار وآراء

واشنطن وحلف الأطلسي .. إلى أين في ظل رئاسة ترامب ؟

31 يناير 2017
31 يناير 2017

إميل أمين كاتب مصري -

[email protected] -

بعد نحو سبعة عقود من نهاية الحرب العالمية الثانية واستعلاء حلف الأطلسي في سماوات الأحلاف الدولية، ها هي علي الأفق تبدو إرهاصات مثيرة عن مستقبل الحلف، فهل سيقدر له المضي قدما في العقود القادمة أم أن نهاية عقده تقترب، وتكاد تنفرط في نفس الوقت... ما الذي يستدعي علامة الاستفهام المتقدمة في هذا التوقيت بشكل خاص؟  

يبدو أن الرئيس الأمريكي الجديد «دونالد ترامب» غير متحمس لحلف الأطلسي، ففي تصريحات له لصحيفتي «التايمز» البريطانية و «بيلد» الألمانية، أشار إلى أن حلف شمال الأطلسي عفا عليه الزمن، بل ذهب الى ان واشنطن غير مستعدة لتحمل نفقاته بمفردها سيما وان كثير من الدول الأعضاء وبخاصة الأوروبيين لا يدفعون المساهمات المالية الخاصة بهم .. وأضاف حال دفع الجميع ما عليهم ربما يكون هناك أمل او فائدة من بقاء الناتو ..... هل هي بداية جديدة لعلاقات أمريكية أوروبية مغايرة لما جرت به المقادير منذ العام 1945 وحتى الساعة ؟

الشاهد أنه مهما يكن من أمر تصريحات ترامب المتنوعة فإن هناك حالة كبيرة من الخوف تعم الأوروبيين على نحو خاص من انسلاخ الولايات المتحدة الأمريكية من الحلف، وبقاء أوروبا بمفردها في مواجهة روسيا الصاعدة وأحلام بوتين القومية وانتشارها في العالم برمته شرقا وغربا، لاسيما بعد أن يسر لها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما طريق الانتصارات عبر إحجامه عند التدخل في العديد من القضايا الدولية الشديدة الوعورة والخطورة والأهمية.

يبدو المشهد في الداخل الأمريكي بداية غير متسق ما بين الرئيس الجديد وجنرالاته وفي المقدمة منهم وزير دفاعه الجديد «جيمس ماتيس» الجنرال الشهير بلقب «الكلب المسعور» ذلك أن التصريحات الصادرة عن «ماتيس» لا تشي بأن مسألة الانسحاب من حلف الأطلسي يمكن أن تكون مقبولة أو معقولة من البنتاجون الأمريكي، كما من سائر الدوائر الأمريكية الحكومية، التي تتهم روسيا بالتدخل في الشؤون الأمريكية.

وزير الدفاع الأمريكي الجديد يتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالسعي إلي «تفويض» الحلف الأطلسي، وقال ان علينا أن نتخذ خطوات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية والعمل مع حلفائنا للدفاع عن أنفسنا حيث يلزم.

يفهم من تصريحات «ماتيس» أن حلف الأطلسي يبقى ضرورة مهمة بالنسبة للولايات المتحدة بعكس تصريحات ترامب، بل إن تصريحات الأمين العام لحلف شمال الأطلسي «نيس ستولتنبرج» نفسه قد أعرب عن ثقته بأن الولايات المتحدة ستواصل الوقوف وراء ضماناتها الأمنية تجاه الحلف، ففي تصريحات له لصحيفة «دي فيلت» الألمانية معلقا علي انتقاد الرئيس ترامب لدور الحلف في مكافحة الإرهاب قال : » تواصلت مع ترامب هاتفيا، وقال لي إن الولايات المتحدة ستواصل تحمل المسؤولية تجاه الناتو».

وأوضح ستولتبنرج» ان الناتو يشارك بشكل فعلي في مكافحة الإرهاب العالمي، ولكننا نناقش طريقة تعزيز القدرات في هذا الخصوص..... هل مخاوف الأوروبيين من ترامب تتوقف عند حدود حلف الناتو أم أن الأكبر أعرض وأعمق من ذلك؟

أفضل من تحدث في هذا الشأن في واقع الأمر هو «مارك ليونارد» مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فقد أشار في رؤية تحليلية له أن الأوروبيين يتوجب عليهم أن ينظروا إلى العالم من منظورهم الخاص، وعنده أن هناك أربعة أسباب تجعل توقع أمريكا في عهد ترامب مصدرا للفوضى العالمية، أمرا بات مؤكدا.. ماذا عن تلك الأسباب؟

أولا: لم يعد من الممكن التعويل على الضمانات الأمريكية، فقد تساءل ترامب ما إذا كان من الواجب عليه أن يدافع عن دول حلف شمال الأطلسي في أوروبا الشرقية في حين لا تبذل هي أي جهد إضافي للدفاع عن نفسها.

ثانيا: لن تسلم المؤسسات العالمية من الهجوم، إذ يرفض ترامب جوهريا الرأي القائل بأن النظام العالمي الليبرالي الذي أنشأته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية (والذي توسع بعد الحرب الباردة) هو أرخص وسيلة للدفاع عن القيم والمصالح الأمريكية».

ثالثا: سوف يقلب ترامب كل العلاقات الأمريكية رأسا على عقب، ومكمن الخوف الصريح هنا هو أنه سيكون أكثر لطفا في التعامل مع أعداء أمريكا مقارنة بتعامله مع حلفائها. ويتمثل الأمر الأكثر تحديا للأوروبيين في إعجابه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فإذا قرر ترامب في محاولة لتملق بوتين بحثا عن صفقة كبرى الاعتراف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم في عام 2014، فسوف يضع الاتحاد الأوروبي في موقف شبه مستحيل.

ورابعا: هناك مسألة عدم القدرة علي التنبؤ بتصرفات ترامب، فحتى خلال الحملة الانتخابية الرئاسية التى دامت 18 شهرا، كان ترامب على جانبي كل القضايا تقريبا، وتظهر حقيقة أنه قد يقول اليوم عكس ما قاله بالأمس، من دون الاعتراف بأنه غير رأيه إلى أي مدى تتحكم أهواؤه في طريقته في التعامل مع الأمور.

هل بدأ المسؤولون الأوروبيون بدورهم في القلق من مستقبل علاقة أمريكا بالناتو؟ يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، فقد أعلن وزير الخارجية الألماني «فرانك شتاينماير» أن حلف الأطلسي تلقى بقلق بالغ تصريحات ترامب عن حلف الأطلسي الذي تخطاه الزمن.

و من جهته اعتبر نائب المستشارة الألمانية «سيغمار غابريال» أن على أوربا إبداء الثقة في مواجهة الانتقادات الشديدة التي وجهها الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وقال «غابريل» وهو أيضا وزير الاقتصاد في تصريحات لصحيفة «بيلدر» الألمانية «أعتقد أن علينا نحن الأوروبيين ألا نستسلم لإحباط شديد «مضيفا» لا أقلل من أهمية ما يقوله ترامب، ولاسيما بشأن الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي، لكن إبداء القليل من الثقة سيعود علينا بالفائدة في مثل هذا الوضع.

من جانبه قال وزير الخارجية الفرنسي «جان مارك إيرولت» إن أفضل رد من الأوروبيين على تصريحات ترامب حول الاتحاد الأوروبي وخروج بريطانيا من التكتل، يكمن في إظهار «وحدتهم» وقال «أيرولت» في بروكسل لدى وصوله لحضور اجتماع لوزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي مؤخرا أن «أفضل رد على مقابلة الرئيس الأمريكي هو وحدة الأوروبيين.

الرئيس الفرنسي «فرانسو هولاند» بدوره كان هناك في الجدل الذي أثاره ترامب، فقد قال: ان الاتحاد الأوروبي ليس بحاجة لنصائح خارجية تقول له ما عليه فعله»، وجاء كلام هولاند هذا خلال حفل تقليد وسام للسفيرة الأمريكية في باريس «جين هارتلي» .وقال «أوكد لكم أن أوروبا ستكون دائما على استعداد لمواصلة التعاون عبر الأطلسي، لكنها ستتحرك وفق مصالحها وقيمها، وهي ليست بحاجة لنصائح خارجية تقول لها ما عليها فعله».

وفي وقت سابق كان ترامب يوجه الاتهامات لأهم شخصية سياسية في القارة الأوروبية اليوم، أي المستشارة الألمانية «انجيلا ميركل»، فقد وجه لها اللوم بوصفها ارتكبت خطأين كبيرين الأول تأتىّ من جراء السماح لها باستقبال مهاجرين من العالم الخارجي في العامين الماضيين، فيما الثاني يتصل بالحركة التجارية بين البلدين فأمريكا تشتري من المانيا سيارات مرسيدس بنسبة كبيرة في حين لا تشتري ألمانيا سيارات شيفروليه بنفس القدر. لا يزال ترامب يفكر بعقلية رجال الأعمال ويجيد فن «عقد الصفقات»: وهذا ما تجلى واضحا في خطاب التنصيب عندما أشار إلى أنه قد حان الوقت لشراء المنتج الأمريكي، ولتوظيف أشخاص أمريكيين.

لم يكن لـ أنجيلا ميركل» أن تصمت أمام هذه الاتهامات، وعليه فقد صرحت بالقول :» أعتقد أن مصيرنا نحن الأوروبيين في أيدينا. أريد أن أواصل السعي حتى تعمل الدول الأعضاء الـ 27 في الاتحاد الأوروبي سوية نحو المستقبل، لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.

هجمات ترامب عبر تصريحات «التايمز» و «بيلدر» لم تتوقف عند حدود الناتو، بل تجاوزتها إلى حيز الاتحاد الأوروبي نفسه، فقد رحب بخروج بريطانيا من الاتحاد، ووعد البريطانيين بعقد صفقة تجارية كبرى معهم، بل وبدأ وكأنه يشجع دولا أوروبية أخرى على المضي في ذات الاتجاه، الأمر الذي استنكره «جون كيري» وزير خارجية أوباما بقول :» أعتقد بصراحة تامة أنه كان من غير اللائق لرئيس منتخب للولايات المتحدة أن يتدخل في شؤون دول أخرى بهذه الطريقة المباشرة، فيما أشارت منسقة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي «فيديريكا موجيريني» في ختام اجتماع لوزراء الخارجية الأوروبيين في بروكسل «أعتقد أن الاتحاد سيبقى موحدا، وأنا مقتنعة بذلك تماما».

هل هناك بالفعل احتمالات بعينها لأزمة ما بين الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترامب وبين القارة الأوروبية؟

الشاهد أن دونالد ترامب هو أول رئيس أمريكي منذ الحرب العالمية الثانية الذي لا يدعم نموذج التكامل الأوروبي، في الوقت الذي كان ينظر فيه للاتحاد الأوروبي منذ فترة طويلة بأنه يفيد مصالح الولايات المتحدة، لأنه خلق سوقا موحدة للشركات الأمريكية، وحائط صد ضد الشيوعية خلال الحرب الباردة، كما ساعد في قمع المذابح الدموية في الحربيين العالميتين، التى حصد أرواح الأمريكيين وغيرهم من المواطنين خلال النصف الأول من القرن العشرين.

وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق «توسع الاتحاد الأوروبي شرقا داخل الدول الشيوعية السابقة، وهو التطور الذي نظر إليه قادة هذه الدول باعتباره ساعد في تحقيق سيادة القانون، والاستقرار وتحديث اقتصاد تلك الدول. نقرأ في رؤية تحليلية نشرتها الأيام الماضية صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية أن مواقف ترامب المتشددة قد خلقت صورة قائمة لدى قادة أوروبا، دفعتهم نحو الاعتقاد بأن عليهم الآن الوقوف بمفردهم، دون الولايات المتحدة، الشريك الأقوى والأقدم لأوروبا. على أن السؤال الواجب طرحه في هذا المقام هل يدرك الرئيس ترامب المخاطر المترتبة على الانفصام بين بلاده والقارة الأوروبي.

المؤكد ستمتد التداعيات الكاملة الى انهيار في العلاقات عبر الأطلسي بشكل واسع لتؤثر على الجميع، فضمانات الولايات المتحدة تدعم الأمن الأوروبي، كما أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الذي يبلغ تعداد سكانهما حوالي 500 مليون نسمة، يعد أن أهم شريك تجاري بالنسبة لبعضها البعض، وعلى مدى عقود عملت الدول الأوروبية والولايات المتحدة معا وبشكل وثيق على قضايا الحرب والسلام والتجارة.

من يمكن أن يحدد وبقوة مستقبل العلاقات الأمريكية ـ الأوروبية؟ أغلب الظن أن الأمريكيين أنفسهم هم من سيحدد ويقرر، وهنا يظهر بعد العلاقات مع موسكو تـأثيره في هذه القضية.