شرفات

غواية الرواية وصعوبة القصة

30 يناير 2017
30 يناير 2017

محمود الرحبي -

لست في صدد التقليل من شأن الرواية، فهي فن أدبي عرف أصالته وعراقته عبر عقود من التراكم النوعي والكمي، وكان له مزاولون كبار يصعب حصرهم، تولستوي، ودستويفسكي، وفلوبير، وبلزاك، ونجيب محفوظ، وجابرييل جارسيا ماركيز، والقائمة تطول ولا تنتهي بسهولة. ولكنها محاولة لتفسير السبب الذي دفع كتابها يتكاثرون عبر العالم، وبهذه الصورة الكبيرة، مقابل انحسار كتاب القصة ومحدوديتهم. القصة رغم قصرها ومحدودية كلماتها، والرواية رغم شساعة مساحتها وتعدد عوالمها.

فقد أغرت الرواية الكثيرين، فوفدوا إلى ساحاتها قادمين من مناطق مختلفة لا يربطها في الغالب بالسرد سوى رابط القراءة والتذوق وأحيانا التفنيد والمجابهة: منطقة النقد والصحافة مثلا. بل هناك شعراء ومسرحيون وقصاصون وممثلو دراما وقراء عاديون وطلبة تحولوا فجأة إلى كتاب رواية. قد ينجح البعض ويستمر، بينما يتوقف البعض الآخر عند العتبة الأولى ثم يتراجع بعد أن يشبع شغفه بكتابتها ومزاولتها.

وهو شغف لا تختص به الرواية العربية فحسب، إنما له جذور عالمية وأمثلة لا تعد تبدأ من فصول الحرم الجامعي ولا تنتهي عند حدود المطبخ المنزلي؛ فمثلا الكاتبة هيريت ستو صاحبة الرواية الأكثر مبيعا في أمريكا في القرن التاسع عشر بعد الكتاب المقدس (كوخ العم توم) وهي رواية كانت تنشد التعايش بين الجميع وتنبذ العبودية والعنف. ولم تكن الكاتبة قبل ذلك تعرف سوى منزلها وأولادها ومطبخها، وقد كتبت فصول روايتها في السر، بعيدا عن أعين زوجها، لتظهر الرواية كرسالة احتجاج وصلت لكل يد أمريكية وعين، ويقال بأنها السبب في تغير سياسات جذرية في العالم يستمر مفعولها حتى الآن.

لا يحتاج المرء عادة إلى أن يتعلم كيف يحكي، فهو يولد وفي رأسه رغبة للصياح ثم للحديث، ستتدفق تلك الرغبة في البوح وتتنوع وتتشكل، سواء عبر اللسان أو اليراع. وكثير من الروايات تجعل من البوح والحكي ركيزتها، لذلك يظل التمايز بين كاتب وآخر في طريقة تقديم هذا الحكي، أي على مستوى التقنية، على مستوى الطرائق، على مستوى الطبخة (نعود هنا مرة أخرى إلى المطبخ).

ولأن الرواية مرآة تجوب الشوارع كما يقول ستاندال، فإن الكثيرين يتمكنون من حمل هذه المرآة والمشي بها لالتقاط ما يمكن التقاطه من تفاصيل ومعان (ملقاة على قارعة الطريق حسب أبي عثمان الجاحظ).

فكثير وعديد ما يمكن التقاطه في حياتنا المقعدة والمركبة. ونسمع مرارا عن كاتب كتب أول مرة، وهذه- الأول مرة- تكون عادة رواية، وهذا ما يحدث في الغالب الأعم. وهناك روايات تنجح جماهيريا رغم قلة خبرة كاتبها في معرفة أسرار السرد، وذلك بسبب القدرة على الحكي؛ الحكي التشويقي صديق الشعوب على مر العصور (نتذكر هنا ألف ليلة وليلة، والسير الشعبية، وكتب الرحلات). وهناك من كنا نعرفه من قبل كشاعر أو كإعلامي أو كناقد، ولكن دارت في فكره وخلده قضية مثيرة أو موضوعا غير مطروق أو أنه- في أغلب الأحوال- قد التقى في حياته بشخصية ذات خبرة وإرهاصات وتجربة مثيرة فرأى أن يصيغها مكتوبة ويحول حياتها الهامشية إلى عمل روائي؛ أي أن يطبع ما سمعه وعرفه ثم ينشره في كتاب يجنس بعدئذ- ومن طرف الناشرين وليس النقاد عادة- كرواية. ولأن الرواية بلا شروط صارمة حتى الآن، فإن الأمر يمكنه أن يكون في متناول كل يد، ليظل التمايز في التقنية والطرائق كما أسلفت.

لكن ثمة جنس آخر، يظل في رأيي هو الأنبل والأصعب والأهم. أعني هنا القصة القصيرة.

والتي يمكنها أن تكون- أي القصة- فن التحدي بامتياز؛ فكيف تستطيع أن تدمج عالما متكاملا في لحظة توترية واحدة، وتوجد موقفا متماسكا في مساحة محدودة؟

سئل مرة بورخيس لما ذا لا تكتب رواية؟ فقال لماذا أكتب خمسمائة صفحة في موضوع أستطيع أن أكتبه في خمسة أسطر.

القصة هي فن التحدي والاختزال والذي لا يمكن أن يجيده الجميع ولا يستطيع أن يغامر بدخوله الجميع. لأنها باختصار لا تستجيب للحكي ولزيادات للتعبير المتدفق، بل هي على النقيض من ذلك، حين تضع خطوطا حمراء أمام الاستطراد والتدفق والحكي المسترسل.

هناك كتاب في العالم كتبوا روايات ولكن قصصهم ظلت هي الأهم. والسبب لأنها كتبت بحرفية اختزال عالية، وأبرز مثال عالمي على ذلك هو الكاتب الروسي الأشهر تشيكوف، وعربيا الكاتب المصري يوسف إدريس.

فهناك أحداث لا يمكن أن تصاغ إلا كقصة، وإلا تم إدخالها في بحر الاستسهال والثرثرة، والقاص المحترف هو الذي يستطيع صياغة ذلك دون تبذير للكمات أو بتر لعالمه السردي.

بيت أفغاني يدخله الروس فيختبئ أهله في حفرة ولكن نباح الكلب يكشف كل شيء، فتتم إبادة تلك الأسرة. الخبر لا يذكر شيئا عن الكلب. إلا أنه مصدر تلك المأساة. ولكن القصة يمكنها أن تركز على الهامش وتسائله وبذلك تخرج بمشاعر جديدة. تنطلق في وصف مثل هذا الخبر المأساوي ومن زاوية غير متوقعة وفي غضون كلمات معدودة. معليا بذلك من شأن الفن ومحولة الخبر الصحفي المزلزل إلى مادة أزلية لا نفاد لدهشتها أو لمفعولها التوالدي مهما تحرك الزمن. وبذلك تتعامل القصة مع الخبر بخصوصية الفن فتعلي بذلك من شأنه.

ولكن ليس كل حدث يمكنه أنه يتحول إلى قصة.

ذات يوم حلم الكاتب العالمي ماركيز بأنه يحضر جنازته وفي نهاية الجنازة ينسحب الأصدقاء واحدا واحدا وحين يرغب في هو الانسحاب معهم يمنعه حارس المقبرة. فيرى ماركيز أن الموت معناه ألا تكون بصحبة الأصدقاء. يستخرج الكاتب من الحلم حكمة ولكنه لا يستطيع أن يستخرج منه قصة. لذلك فإنه ليس بالضرورة أن كل الحوادث والوقائع يمكنها أن تكون مادة تتخلق لتصبح قصة.

تعتمد القصة على ذكاء الكاتب في الالتقاط. إنه في كتابة القصة يكون أمام مسؤولية كبيرة في اختزال عالم من الكلمات وتقديمه مشذبا من الزوائد؛ فكل كلمة أو فعل أو اسم في القصة يجب أن يوضع في مكانه الموائم والطبيعي وإلا أصبح زائدا ومقلقا لها. القصة كذلك تعتني بالإشارات والتلميحات ولا تحتفي بالثرثرة والزوائد اللفظية والتفاصيل المكررة.

في قصة موت موظف للكاتب الروسي تشيكوف، يستعين الكاتب بلقطة عابرة حدثت في مسرح . بالتحديد هو يجعل من عطسة عابرة قصة عالمية ما زالت حرارتها مستعرة حتى الآن، وذلك ليس بسبب الشكل الخارجي للقصة حين يعطس موظف صغير على رأس جنرال دول أن يقصد، إنما بسبب ما تحمله القصة من دلالات عميقة ومضمرات تدين الحس البيروقراطي التسلطي في العهد القيصري. تدينه بدون أن تشينه بأي كلمة، إنها تتحدث عن حالة شبه فكاهية وهي عطسة، ليتمسرح الحدث بعد ذلك حين تكبر الوساوس في رأس العاطس ليجد نفسه يبحث عن الجنرال للاعتذار منه، وتمضي القصة في رمزيتها المضمرة حين الجنرال لا يتذكر هذا حادث العطسة أصلا ونسيه نظرا لانشغالاته الكثيرة- وفي الحقيقة نظرا لفوقيته وتعاليه عن شواغل البسطاء – فيتحول الجنرال بذلك إلى رمز مباشر للتسلط والفوقية-.. ولكن الموظف يعتبر كل ردة فعل من الجنرال- أي من الرمز- أخطر من الأولى. إنه موظف يعيش في خطر أو يجب أن يعيش في خطر دائم يتهدد حياته ووظيفته إن أخطأ، حتى وإن كان هذا الخطأ عابرا وطبيعيا وبدون قصد.

الرواية كذلك لا ينقص كاتبها الذكاء وحرفة الاقتناص. وهناك احداث لا يمكن أن تكتب إلا في صيغة رواية، أي لا يمكنها أن تصاغ كقصة. ومثال عابر على ذلك، الرواية الشهيرة التي تحمل عنوان (العطر) للألماني باتريك جوسكند؛ فبسبب زخم التفاصيل الضرورية لهذه القصة، إلا أن تصاغ في قالب روائي. وهي كذلك لا تخلو من التقاطة ذكية من كاتبها واشتغال على مستويات عدة من أهمها مستوى البحث والتقصي المتعلق بالعطر وأنواعه والتقصي كذلك في الحواس إلى جانب المسح الطوبوغرافي لمدينة باريس في بدايات القرن العشرين.

وعربيا أذكر القاص المصري سعيد الكفراوي – الذي لا يكتب إلا قصة – حين خرج من السجن في العهد الناصري، التقى في مقهى ريش بالكاتب نجيب محفوظ، وسأله محفوظ عن تفاصيل فترة سجنه، فظل الكفراوي يحكي له ويسرد شفويا المواقف التي عاشها في السجن. ثم يفاجيء الكفراوي بأن شخصية رواية الكرنك هي سعيد الكفراوي نفسه، حيث حول نجيب محفوظ ما سمعه من الكفراوي إلى أحداث وسرد وصهره في مصهره الخبير ليخرج للقارئ برواية مهمة. وقد أكد نجيب محفوظ للكفراوي بعد ذلك بأن شخصية إسماعيل الشيخ التي في الكرنك هي سعيد الكفراوي نفسه. كان الكفرواي يتعامل مع احداث سجنه على هيئة مواقف وإشارات استفاد منها حتما في نسج عالمه القصصي وربما بإشارات معبرة وهادفة أكثر عمقا من أن يحولها إلى رواية.

قد يظن القارئ بأن كل حدث يمكن تحويله إلى رواية، ولكن الأمثلة التي أوردتها تؤكد بأن لكل فن سردي عدته وأدواته، وأن الذي يستطيع كتابة هذا الفن، ليس بالضرورة بأنه سيتمكن من كتابة غيره بسهولة.

ثم أن القصة ليست استراحة (محارب روائي) كما يذهب البعض، ليست هامش استراحة، بل العكس هو الصحيح. يمكن لربة البيت أن تكتب رواية أو للناقد أن يكتب رواية أو للشاعر أن يكتب رواية أو للصحفي أن يكتب رواية. وهذا يحدث كثيرا كل يوم تقريبا؛ ولكن من الصعب جدا أن يكتب القصة كل هؤلاء. وذلك لأن العدة المعقدة والمرهفة للقصة لا يمكن أن يمتلكها كل أحد، وإن كتبت من قبل كل هذا الحشد من الكتاب فلن تكون قصة صامدة، بل ستكون مشهدا سرديا خاليا من الحمولات الدلالية والرمزية التي تكتنفه، وذلك لأنه اعتمد على البوح والإخبار والانثيال الحر المتدفق، وذلك نظرا لقلة الخبرة في الصياغة والتكثيف والالتقاط وهي أمور لا تتأتى بدون دربة وقدرة على القنص والاستبسال في قطف الثمرة المناسبة في اللحظة المناسبة.

ظلت الرواية مجال حديث طويل بين النقاد والقراء حتى وسم هذا العصر بعصر الرواية، نظرا لكثرة كتابها ولسهولة مزاولتها كما أسلفت، وكذلك لأن في ضمير كل انسان حكاية طويلة من الممكن أن تروى، فلن يتوقف هذا الأمر، فسوف تفاجئنا الرواية في كل مرة بعمل جديد، كتبه كاتب مغمور وغير معروف كروائي من قبل. وهذا كذلك من ضمن أسرار الرواية، بأنها لا تستند فقط إلى التقنية والطرائق السردية،إنما إلى الأحداث والمواضيع المثيرة أو الطريفة أو المأساوية التي تشحذ عاطفة القارئ والناقد والمتابع. كما أن الجوائز التي رصدت للرواية في كل بقعة في العالم تساعد على انتشار الرواية ومزاولتها وانتشارها.

وهو أمر بعيد عن ساحة القصة التي يصعب مزاولتها من الجميع لأنها تعاند ولا تستجيب للانثيال الخطي المتتابع. إنها لعبة عصية، أو عاصفة صغيرة الحجم ومؤثرة في مجرى النهر الكبير للحياة.