906467
906467
شرفات

بعبارة اخرى .. أطروحات حول الحرية والفكر - 2

23 يناير 2017
23 يناير 2017

د. حسن مدن -

ليست حال المجتمعات العربية مع الحرية، بما فيها حرية الفكر والتعبير بخير.

ما من قيمة في الحياة في محل تقريظ وإشادة كقيمة الحرية، ولكن ما من قيمة مكبلة بالقيود وبالمحاذير وبالمحظورات مثلما هي الحرية، فنحن جميعاً نمشي بمحاذاة الحائط لأننا اعتدنا الاتكاء عليه ولم نتعلم بعد المشي الحر في الشوارع الفسيحة برجلين طليقتين، ونحن نمشي مطأطئي الرؤوس لأننا اعتدنا أن تكون السقوف واطئة، وأن رؤوسنا دقت بما فيه الكفاية بهذه السقوف حتى أصبنا بالدوار فلم نعد نعي مواقع الجهات الأربع.

وليس الأمر وليد اللحظة التاريخية الراهنة المأزومة، إنما يمتد عميقاُ في تاريخنا، الذي كانت حرية الفكر فيه، في محنة مستمرة، ففي العصر الجاهلي هجا الشاعر طرفة بن العبد الملك عمرو بن هند، فكتب إلى عامله بالبحرين بأن يجهز عليه، فكان ان استدرجه وفصد كاحله وقتله على نحوٍ مرعب. والشيء نفسه فعله النعمان بن المنذر مع عبيد بن الأبرص، وكان مصير الشعراء السود والصعاليك الحصار والعزل والخلع.

ويحفظ التاريخ كذلك أسماء خالدة ممن قالوا قولة الحق بوجه العسف من أمثال أبي ذر الغفاري وعروة بن ورد والشنفري ومالك بن الريب وأبو الأسود الدؤلي وابن حزم الأندلسي وسواهم، وكان نصيب الكثير من الفلاسفة وأهل الفكر التشريد والسجن والقتل غيلة وظلماً، كما حدث مع غيلان الدمشقي والحلاج والسهروردي وغيرهم.

وفي التاريخ الحديث اضطهد الدكتور طه حسين وهوجم، ومن بعده واجه وضعاً شبيهاً الدكتور حامد أو زيد اضطره إلى التغرب عن وطنه، وسواهما واجه الكثيرون العديد من أشكال المضايقة والتشهير، لا بل والقتل.

لكن تاريخنا عرف كذلك لحظات من الازدهار والتقدم في المعارف وفي الفلسفة والابداع، تلك اللحظات التي أدرك فيها أُولو الأمر أن الحرية هي مناخ الابداع والعلم، وينقل التاريخ أن الخليفة المأمون قرّب اليه الكثير من الجدليين والنظار وأهل المعرفة والفقه، وكان يجادلهم بنفسه، وأنتجت تلك اللحظة الذهبية الثراء الفكري في الحضارة العربية، لتستفيد منه أوروبا لصنع نهضتها، بعد أن دخل عالمنا العربي – الإسلامي بياته الطويل.

هذا الغياب للحرية، هو أحد أسباب مأزق الفكر الإسلامي الذي لا يستطيع الخروج منه ولا الفكاك، ويكمن هذا المأزق في تلك الرؤية الفصامية للعالم، وقد أنتجت السياقات المأزقية صراعاً مزدوجا على الإسلام: في الداخل صراع على السلطة مع الأنظمة وعلى المرجعية مع التيارات الإسلامية والتيارات الفكرية الاخرى، ومع الخارج اقتتال في المجال الاستراتيجي وفي المجال الثقافي /‏ الحضاري . انه صراع الراديكاليات . لا حديث عن الوسطية، والحل فيما يرى رضوان السيد يكمن في الاستجابة لحاجتنا: لـ «اصلاح سياسي وآخر ديني/‏ ثقافي، بيد أن الاصلاح ليس اجراءات وحسب، بل بيئات وعزائم ونهضويات ولا يبدو شيء من ذلك حاضرا». (1)

ان التصدي للمسؤوليات بشكل جماعي ومنظم ضرورة لتجاوز الاستئثار ولتجاوز الاستبداد ومباشرة الامور العامة بطرائق تصون الوجود وتحقق المصالح ولا طريق لذلك الا الاليات الحديثة التي تضمن الحريات الاساسية وتقيم رقابة تنظيمية وقانونية من خلال الدساتير ومتفرعاتها. ان مباشرة الجماعة لسلطتها بآليات الديمقراطية كفيل بألا يستأثر فريق مهما بلغت سطوته بالأمر الديني أو الأمر السياسي، أو تكون فتنة لا تقتصر على الذين سعروا نيرانها من الغلاة وقصار النظر. (2)

قبل قول هذا الكلام، كان هناك من المفكرين والكتاب العرب من رأى خلاف ذلك. فعلى سبيل المثال يرى هادي العلوي متفائلا: «إن ظروفنا نحن أفضل من ظروف طه حسين، فالمثقف العربي لم يعد مهددا بحياته من جانب الحكومات التي لم تعد قادرة على الاستجابة لفتاوى اهدار الدم بحق مثقف متهم بالمروق. الخطر الاكبر يأتي من بعض الحركات السلفية التي ايقظتها الثورة الايرانية ودفعتها في طريق الارهاب»(3)

رأي مثل هذا نعثر عليه لدى كتاب آخرين، ففي سبعينات القرن الماضي، وربما في ثمانيناته، أصدر الكاتب السوري الراحل أبوعلي ياسين كتاباً أسماه: «ينابيع الثقافة»،(4) وهو كتاب مفيد، فرغم الجرعة الأيديولوجية الفائضة فيه، فإنه يقدم مثالاً نموذجياً على النزعة التفاؤلية الطاغية يومها التي هيمنت على أذهان شريحة مهمة من المثقفين في العالم العربي عامة، كما هيمنت على أذهان قطاعات ليست قليلة من الشبيبة العربية المأخوذة بفكرة التغيير الآتي لا ريب فيه.

التغيير المنشود وفق أبو علي ياسين ومجايليه من المثقفين التقدميين يومها لا يمكن أن يكون إلا إلى الأمام، فمصير الأفكار الرجعية وممثليها هو إلى النهاية، وما هي إلا مسألة وقت وتسود المجتمع كله أفكار التقدم والحداثة، وتنتهي جيوب التخلف المنتسبة إلى الماضي.

وفي هذا يقول ابوعلي ياسين «ان فريق المثقفين الرجعي يشد بالحياة الى الوراء، فهو متخلف في فكره عن مستوى التطور الذي وصله المجتمع، للك لا تلقى دعواه تأثيرا معتبرا إلا لدى الجماعات المنغلقة، فهو بقايا القرون الوسطى وثقافتها، نجاحاته مؤقتة، وأفكار هذا الفريق لا تقوم على اساس واقعي متين وأساليبهم لا تجذب الجمهور، الشاب منه خاصة».(5)

لا لوم على الكاتب فيما قاله يومها. انه يعبر عن رأي سائد في ذاك الزمن، لم يحسب فيه الناس، والمثقفون والسياسيون في مقدمتهم، أن التاريخ ماكر. يوهمنا هذا التاريخ أنه ذاهب الى الأمام فقط، الى المستقبل، ولكننا لم نفطن أبداً أن هذا «المستقبل» قد لا يعدو كونه استدارة نحو الوراء، كأن الزمن يسير دائرياً، لا في خط مستقيم.

ماذا لو أن أبو علي ياسين مازال حياً وشهد ما نشهده من عودة طاغية ليس للفكر الذي وصفه بـ«الرجعي» فحسب، وانما لطغيان الاتجاهات الأكثر دموية وظلامية فيه وهيمنتها على مناطق نفوذ شاسعة، والأخطر من هذا استحواذها على عقول الشبان العرب، الذين كان قد قال يومها، أن تلك الأفكار لا تجذبهم.

طغى على تفكير أبو علي ياسين كأحد ممثلي جيل حالم بكامله ما وصفه أنطونيو غرامشي بـ«تفاؤل الارادة»، وهو أمر لا غنى عنه لشحذ الفكر وإيقاد العزيمة، ولكن أبناء هذا الجيل أغفلوا الشطر الثاني من عبارة غرامشي ذاتها عن «تشاؤم العقل» الضروري جداً لليقظة من مكر التاريخ، وملاحظة ما يعتمل في القاع، وليس فقط ما يطفو على السطح.

التجربة راهنت على أن هذا التفاؤل لم يكن في محله أبداً، ففي زمننا الراهن تشتد وطأة القيود على حرية التكفير، وتتعدد فيه مصادر السلطات التي تصادر حرية التفكير والمعتقد. في السابق كان الحاكم هو من يعاقب المفكر أو المبدع إذا ما اختلف معه، أما اليوم فان قوى فكرية واجتماعية وسياسية تمارس سلطة أشد من سلطة الحكومات، وتتوسل أساليب الضغط والابتزاز على من يختلف معها، وتجري العودة إلى نصوص روائية وقصصية وابداعية مختلفة صدرت في أزمنة قديمة أو حديثة ليجري تصيد جمل وعبارات منها وعزلها عن سياقها ضمن النسيج الابداعي والدعوة لمعاقبة أصحابها بحجة خدش الحياء العام.

إذا ما استمرت مثل هذه الموجات فعلينا أن نجمع كل نسخ ألف ليلة وليلة من المكتبات والبيوت، وأن نفعل الشيء نفسه مع الشعر الغزلي الجميل في العهود الأموية والعباسية والأندلسية، ونلقي في مياه النيل بروايات نجيب محفوظ واحسان عبد القدوس، فيما الفكر العربي لا يتراجع عن أطروحات طه حسين مثلاً، وإنما عن مقولات محمد عبده وجمال الدين الأفغاني والكواكبي وسواهم من رواد الفكر النهضوي، وينأى هذا الفكر، أكثر فأكثر، عن روح العصر، مما بات يتطلب انتفاضةً فكريةً حقيقيةً تُعيد طرح الأمور في سياقها الحقيقي، لا المُضلل.

الهوامش:

1- رضوان السيد: «مأزق الفكر الاسلامي المعاصر- الاحياء والاصلاح والمسؤولية الاجتماعية» مجلة «التسامح» – مسقط – العدد 9، 2005، ص 57

2- المصدر السابق صص 64 – 65

3- هادي العلوي:»الفكر العربي الإسلامي وضرورة التجديد المنهجي» – بيروت، ص 26

4- بوعلي ياسين: «ينابيع الثقافة» – اللاذقية

5- المصدر السابق.