أفكار وآراء

ضـرورة التدريب لتوظيف المـوارد البشرية واستثمار طاقاتها

22 يناير 2017
22 يناير 2017

عبد الله بن محمد المسن -

من المؤكد أنه لا خلاف على ضرورة وأهمية توجيه وتشجيع القوى العاملـــة الوطـــنية نحـــو التعليم والتدريب الفني والمهني، فالتدريب الفني المهني أصبح ضرورة ملحة باعتباره دعامة للاقتصاد الوطني ولاستمرار التنمية من جانب، وللحاجة الماســــة أيضا إلى تشجيع وتحفيز الباحثين عن عمل للانخــراط في الأعمال الفنية المهنية وإعــــادة النظر في مفهومنا بقيمة العمل الفني اليدوي وكيفية توظيفه بشكل متميز ليكون عامـــلاً مؤثراً ومنتجاً في تحقيق التنمية من جانب آخر.

إن العمل قيمة عالية من قيم الحياة التي أمرنا بها الخالق سبحانه وتعالى في محكم تنزيله ((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون)) صدق الله العظيم، وبهذا الأمر الإلهي تستمد مقولـــــة أن العمل حق وواجب وشرف مصداقيتها بإن على كل إنسان منحه الله العقل والصحة أن يقوم بمـــا أمره الله، وموروثاتنا الشعبية حافلـــة بكثير من الأمثال التي تؤكد هذه المعاني، فاليد العاطلة مرفوضة في مجتمعنا، والإيمان بأن العمل فريضة واجبة يقين ثابت، وعندما تحولت الخبرات الإنســانية إلى علوم تتوارث وتدرس ظل العمل اليدوي هو الأساس أو الركيزة الأولى فيما حققه الإنســــان من إنجــــازات حضــــاريه. وإذا كان الفكر الاقتصادي قد تبنى نظرية أن الأرض الصالحـــة للزراعة ورأس المال هما عماد تكوين الثروة الوطنية فقد أضيف لهمـا بعداً آخــــر وهو ان الإنسان أو موارد الدولة البشرية هي أكبر الثروات اذا ما أحســــن استغــــلال قـــدرات البشــــر وإمكانياتهم وبخاصة بعد التوجه إلى الصناعة كقاعدة للإنتاج لتصبح مع الزراعــــــة دعامتا النهضة الاقتصادية لأي بلد أو شعب . ولتحقيق هذه التنمية للمـــوارد البشرية لابد من العناية بالفرد وبخاصة الشباب الذين هم الرصـــيد المتجـــــدد لهذه المـــــوارد من حيث التعليم والتدريب أو التأهيل ، بمعنى أن كل إضــــافة للإنســـــان من الخـــبرة والتنوير والتثقيف لها مردودها الإيجابي في تحويل طاقة الإنســــان إلى طاقة منتجـــة وليست مستهلكـــــة لإنتاج الآخرين .

الأمر الأكثر أهمية هو أن احتساب الموارد البشرية كعنصر أساســـي في عملية التنمية يتطلب توظيف هذه الموارد بما يتناسب واحتياجات المجتمع وتلبية طموحاته ولابد أن ينعكـس ذلك على خطة التعليم باعتبارها إحـــدى ركائز التنمية المستدامة، على أن تحكمــها النظرة المستقبلية حتى يمكـــن تجنب ماعانت منه كــثيراً من الـــدول من نتائج خـــطط التعليم التي اهتمت بالجـــانب النظري وأغفلت الجانب الفني أو المهني في التعليم فكانت النتيجـة أن تخرجت أعداد هائلة من حملة المؤهلات العالية أو المتوسطة وتجاوزت الحاجــة الفعلية لها حتى تحولت إلى بطالة مقنعة وأصبحت طاقة للاستهلاك فقط دون الإنتاج، وربما كــان من المقبول بالنسبة للسلطنة التي بدأت خططها التنموية مع بداية السبعينات من القرن الماضي حيث كانت نهضتها التعليمية في بدايتها، لكن الأمر تغير مع انتشار المدارس والمعاهد والجامعات وبدأت تتوالى أعـداد الخريجين الباحثين عن فرص العمل وبات من الواضـح إعـــادة النظر في استراتيجية خطة التعليم وتوجهاتها،و لا نبالـــغ إذا قلنا بإن التعليم الفني والمهني يعتبر مــن المسائل ذات الأهمية التي تشغل بال الكثيرين مـن الباحثين والمشتغلين بالتخطــيط التعليمي والتربوي في أكثر بلدان العالم تقدماً وفي الدول السائرة على طريق التنمية، فخطط التنمــية تضع الموارد البشرية في خدمتها وليس العكس بمعنى أن التنمية هدفها الإنسان وهو أيضــاً أداتها وكما تحتاج إلى كوادر مؤهلة تأهيلاً علمياً أكاديمياً هناك وبنفس الدرجـة من الأهــمية احتياج بالغ لكوادر مؤهلة فنياً ومهنياً، كما أن هناك كــــوادر عاملـــة بالفعل محتاجـــة إلى التدريب المستمر لاكتســـاب الخبرات والمهارات، وهناك أيضـــا أعداد من خريجين التعليم الأساسي أو المتوسط بحاجة إلى تأهيل مهني في مجال الإنتاج والعمــل.

وعلى سبيل المثال نجد أن السلطنة في بداية النهضة وفي سنواتها الأولى ونظراً لقلة الكوادر الوطنية من حملـة الشهادات أو خريجي الجامعات توسعت في نـــشر التعليم على اختلاف مراحلـــه وتأسست المعاهد والكليات التي ضمتها لاحقاً جامعة السلطان قابوس ولكن في نفس الوقت وبفضــل النظرة الثاقبة لحضرة صاحب الجلالة سلطان البلاد المفدى وجـه جلالته المجتمع العمـــاني إلى ضرورة اتجــــاه التعليم إلى مجالات أرحب تشمل التأهيل الفني والمهني وتوظيف نتائج التعليم في عملية الإنتاج، وليس من شـك أن الجميع له الحـــق في العمــــل وزيادة الدخــل ولكن هــــذا الحق ليس قاصـــراً علـــى الوظـــــائف الحكــــومية كــــي يضمــــن الفـــــرد الدخــــــل الـــثابت والمستـــقـر. فتلك نظـــرة فردية وأنانية لأننا بهذا المعنى لا نبالي بأن هناك خطـــة للتنمــية تتداخـــل فيها توجهات الدولة وخططها في التعليم والصحـــة والخدمـــات الاجتماعية، وإذا كانت عائدات التنمية تنعكس على تحسين أخوال افــــراد المجتمع ومستوى معيشتهم ، واذا كـــان التوجه العام لتوسيع مجالات التعليم ليشمل الجانب الفني والمهني وخاصة في الدول المقبلـة على تنمية اقتصادها ورفع مستواها الاجتماعي فإنه يدخل في دائرة الضرورة مع الحاجـــة الشديدة للكوادر القادرة على التعامل مع التكنولوجيا العصرية وإدارة المعلومـــات، وأذا قلنا بأن المشتغلين بالتنمية الاقتصادية قد جعلوا التربية والتعليم عامـلين مكملين مع الاقتصـــاد فليس من شك أن الوصول الى هذه الغاية يتطلب دراسة الحاجة الفعلية لليد العاملة ورســــم الخطط التعليمية وفق هذه الاحتياجات. إن التوافق من نظــام التعليم وأهدافــــه والحاجـــات الفعلية للمجتمع من الموارد البشرية المنتجــة يمثل حجــــر الزاوية في تكوين رأس المـــال البشرى الذي لا يتحقق بدونه أي رأس مال مادي مهما عظم أو حتى استثماره بشكل افضل، من هنا يتضح أن توظيف الطاقة العاملة على قطاعــات الأنشطـــة الاقتصادية مطلب مهـــم جدير بالعناية يتم بالتنسيق بين الحاجـة الى الكــــادر الفني العالي والكــــادر الفني المتوسط والمهن المساعدة بحيث يتم توظيف المـوارد البشرية في العملية الإنتاجية بأقصى درجــــات الكفاءة وبخاصه في تلك البلاد التي تعتمد على الأيدي العاملة الوافدة لتوفير احتياجاتها في الجـانب الفني والمهني، كما أن التدريب الفني والمهني في عالم اليوم يعتبر جزءا من نشـــاط الإدارة وأحد الجوانب التي يتزايد دورها وأهميتها، وهـو بلغة الباحثين والمهتمين بتزويد المـتدرب بمجموعة من المهارات والخبرات والمعــــارف والاتجـــاهات الهدف منها تثمين العامـــــل البشري اقتصادياً، فالعامل المدرب عملة ذات قيمة يمكن الاستفادة منها في زيادة الدخل الوطني للبلاد كـما يحـــدث في كثير من دول العالم المتقدمة التي تعتبر عمالتها الفنية مورداً من مــــوارد الثروة عن طريق تصديرها كأي منتج الى دول العالـم المتعطشة للعامـــل الفني المـــدرب، وهي للدول النامية والدول المتجهة الى التنمية المستدامة ضرورة للاكتفاء الذاتي والحـد من الاعتماد على الأيدي العاملة الوافـدة كما هو الحـــال في معظم دول الخليج العربية الى جانب توفير فرص الكسب والعمـل أمــــام أبناء الوطـن وبخاصــــة الشباب وغيرهم من الباحثين عن عـــمل، والإحصائيات تبين مدى حاجتنا الى الاهتمـام بالتدريب من حيث أعـــداد المراكز وكفــــاءة المدربين والنظم وآليات التدريب ووضــع فلسفة لهذا التدريب بحيث يتم مواكـــبة الواقع مع التطبيق مما يعنى حصــــر الاحتياجات الفعلية لمجـــــالات النشاط الصناعـــي والإنتاجـــي والأنشطة المعاونة وتوظيف مجالات التدريب وفق هذه الاحتياجات وتقدير حجم المطلــوب ونــوعيته على المــــدى الزمـــني لخـــطط التنمـــية ومجــــالاتها الصـــناعيــة والزراعــية وحــــتى الحـــرف والمهـــــن المســـــاندة.

إن ما يواجهنا وللأســـف الشديد النظرة ضيقة الأفق التي تلقي بظلالها على مســيرة العالم العربي المعاصر وتعوق انطلاقته نحو التطور التقني وحتى بعد ما انتظمت حركة التعليم لم يتغير مفهوم المتعلمين وتطلعهم الى حياة المكاتب والوظائف الحكومية ولم يفكر احد في أن الغرب الذي حقق تقدمه التكنولوجي الهائل اعتمد على اجتهادات العلماء العرب والمسلمـين في مجال التطبيق والتقنية ثم عاد ليسوق بضاعته من الإدارة والتكنولوجيا وليشعرنا دائما إننا بحاجة الى العلم والخبرة المستوردة، إننا بحاجة الى البحث عن الوسائل الكفيلة بتحررنا من هذه النظرة، فاحترام كل مهنه شريفة حق مشروع يجب أن يكون موضع تقدير واحــــترام المجتمع،ولقد آن الأوان أن نهيئ المناخ الصحيح لتثمين العمل الفني والمهني تثميناً حقيقياً يعترف بأهميته وجدارته ويؤكد انه لا مجال ليد عاطلة في مجتمع يبني ويتقـــــدم، علينا أن نبدأ بترسيخ هذه القيم لأجيالنا وفي مراحـــل التعليم الأســــاسية بمستوياتها المختلفـــة وبكل الوسائل المتاحة والقادرة على قيام النشء بممارسة النشاط اليدوي وإيجاد العـــــلاقة الودودة بين الطفل والناشئ وبين وسائط التقنية الأولية كأشغال التجـارة والحــــدادة واللدائن والطين وهكذا يأنس الطفل منذ حداثته للعمل المهني وتكتشف مواهبه وقدراته الإبداعية لأن التربية الحقة هي في الممارسة وليس مجرد حفظ المعلومات والدروس وأمام ما توفره الدولـــة من برامج التدريب المهني وحرصها على تقديم الحوافز أمام المتدربين لابد أيضــــاً من عـــناية أجهزة الإعلام وسائر مؤسسات العمل الاجتماعــــي كالأنديـــة ومراكز أنشطــــة الشـــباب والرياضة بل والمسجد أيضا لتنمية وعي الفرد بقدرته على الإنتاج الذي يحقق له الكســــب المادي والقيمة الاجتماعية كعضو منتج في المجتمع وليــس من شك أن كافــــة المجــــالات والأنشطة الآن بحاجة مستمرة الى العمالـــة الفنية المــــدربة، وهنا لابد أن نشيد بالجهــــود المبذولة نحو تشجيع ودعم خطط التعمين وكـــذلك التدريب المهني بالسلطـــنة وما تلقاه مـن عناية ودعم من قبل أجهزة الدولة المسؤولة وهذه المساندة والتشجيع تعتبر من ضـرورات نجاح خطط التعمين والتدريب الفني والمهني وتأكيد أهميتها لكن الأمر أيضــا بحاجــــة الى تشجيع جميع قطاعات المجتمع ووعيه بهذا الدور وتلك الأهمية وتغيير المفهوم الاجتماعــي السائد تجاه العمل وطبيعته.