أفكار وآراء

إدارة ترامب.. الحاضر الغائب في القمة العربية المقبلة

21 يناير 2017
21 يناير 2017

د. عبد العاطى محمد -

وفقا للإجراءات المعتادة هناك قمة عربية في مارس المقبل بالأردن. وكالمعتاد أيضا هناك قائمة من القضايا معروفة سلفا تتكرر من قمة إلى أخرى. ولكن هذه المرة الأمور جد مختلفة، لأن ترامب هو الحاضر الغائب في هذه القمة. فقد أدى وصوله للبيت الأبيض إلى وقوع «تسونامى سياسي»، تداعياته لم تتوقف منذ اللحظة الأولى على الداخل الأمريكي، وإنما امتدت إلى العالم الخارجي الذي تعد المنطقة العربية الجزء الساخن منه. أمام ما حدث لا تملك القمة العربية رفاهية تجاهل الشأن الأمريكي الجديد، بل تجد نفسها مضطرة بحكم الضرورة أن تضعه في صدر اهتماماتها ليصبح مسيطرا على النقاش والمواقف.

من السذاجة السياسية تجاهل الأوضاع السياسية الأمريكية التي انقلبت رأسا على عقب واعتبارها شأنا أمريكيا داخليا محضا شأن كثير من الإدارات الأمريكية السابقة، ومن الخطأ التعامل بمنطق الانتظار والترقب أو العمل بأسلوب رد الفعل مثلما كان يحدث في التجارب السابقة لأن هناك تغييرا في السياسة الأمريكية خارجيا وداخليا أكبر مما هو معتاد أو متوقع. تقارب ورغبة في الصداقة مع روسيا واستدارة عن الحلفاء التقليديين خارجيا، وانقلاب على العولمة للانكفاء على الذات من الناحية الاقتصادية وإلغاء لسياسات مهمة عاشت عليها الولايات المتحدة في عهد أوباما ومنها مشروع التأمين الصحي. والمعنى أننا أمام أمريكا أخرى غير التي عرفناها على مدى سنوات طويلة مضت.

أمريكا ترامب المختلفة عن سابقتها تشكل أولى الصعوبات في صياغة المواقف العربية منفردة أو جماعية من السياسات المقبلة في الشرق الأوسط. ولكن ربما كانت أقل الصعوبات، حيث التكيف مع المستجدات الأمريكية ظل ممكنا في السابق اعتيادا على أن كل إدارة غالبا ما تكون لها أولويات ورؤى مختلفة عن سابقتها. إلا أن الصعوبة الأكبر تكمن في أسلوب الإدارة الجديدة القائم على المساومة والصفقات والسرية والفجائية في اتخاذ القرار، لا على المبادئ والقيم والصراحة والوضوح والشفافية. وهو أسلوب لم يؤمن به يوما كثير من صانعي القرار في المنطقة العربية ولم يتدرب عليه أيضا، وفي حالة العمل به في منطقة ساخنة جدا كهذه المنطقة التي تعصف بها الصراعات كل يوم معناه ببساطة ليس فقط البقاء على الصراعات القائمة بل أيضا إضافة صراعات جديدة. لدينا رئيس أمريكي يأتي للمرة الأولى من خارج المؤسسات أو ما يسمى بالدولة العميقة، وهو رجل أعمال ملياردير لم يعرف في حياته سوى عقد الصفقات التجارية ومسكون باستعادة عظمة الولايات المتحدة كأكبر قوة اقتصادية تتحكم في مصير العالم، ولا دراية له بالسياسة وربما لا يرغب حتى في تطوير أفكاره ونظرته . وبالإضافة لكل ذلك جاء إلى البيت الأبيض محملا بعداوات متعددة ليس فقط من خصومه في الحزب الديمقراطي ، ولا أيضا من خصومه في الحزب الجمهوري وكثير منهم أعضاء في الكونجرس، وإنما بقطيعة عدائية مع وسائل الإعلام التي اتهمها بأنها تعمدت التقليل من شأنه ومحاولة إفشاله في الانتخابات الرئاسية. والأخطر أنه دخل في خصومة مع أجهزة الاستخبارات الأمريكية بالنظر إلى الجدل الذي أثير حول تقديمها تقريرا من 35 صفحة لأوباما سلفا وله لاحقا يتضمن حصول روسيا على معلومات خاصة محرجة له يمكن بها ابتزازه وهو رئيس للولايات المتحدة ( وهو ما نفاه ترامب ونفاه بوتين نفسه قبل أيام ) وما يستفاد من ذلك أن صانع القرار في المنطقة العربية أمامه التعامل مع رئيس أمريكي يواجه ظروفا داخلية على غير المعتاد بالقياس للرؤساء السابقين. فإذا كان الانطباع العام في المنطقة بعد تجربة فاشلة مع إدارة أوباما هو عدم الثقة في كلام ووعود الإدارات الأمريكية على الأقل فيما يخص قضايا المنطقة المباشرة والمهمة، فإن وجود رئيس أمريكي جديد قد يجعل عدم الثقة يتفاقم بشكل غير قليل، ومن ثم يصبح من الصعب التعامل معه أو المساومة وعقد الصفقات معه بوصفها الأسلوب المفضل عنده.

ولكن ترامب لم يمهلنا كثيرا للتسليم بصحة هذه التقديرات فقط بالنسبة لمدى صعوبة التعامل مع الإدارة الجديدة، فقد ألقى على الطاولة صعوبة أخرى لكي يبقى وحده صاحب القرار المفاجئ سواء كان لصالحنا أو ضدنا. فقد جاء بفريق حوله يعبر عن أسلوب المساومة واللعب بأوراق عديدة لصالح ما يراه هو مفيدا للولايات المتحدة كأعظم قوة في العالم. وقد تصور البعض أن هناك خلافات بينه وبين فريقه استنادا إلى ما جرى في جلسات الكونجرس لمساءلة أبرز القيادات الجديدة ضمن خطوات التصديق على تعيينهم، وذلك بناء على ما جاء على لسان بعضهم من رؤى بدت بالفعل مختلفة عن رؤى ترامب. ولكن بقدر بسيط من التأمل يتضح أن هذا الاختلاف من صميم عقيدة ترامب إن جاز التعبير. هذا الفريق جاء متنوعا بقصد من ترامب حتى يستخدم كل الأوراق لصالحه، فهناك من يريدون الحفاظ على تقاليد الخارجية الأمريكية القائمة على توسيع شبكة العلاقات الدبلوماسية واستغلالها لأقصى مدى في تعظيم الدور الأمريكي في توجيه مسار العلاقات الدولية والنظام الدولي عموما، وكذلك الحرص على الوفاء بالتزامات الولايات المتحدة الدولية. وهكذا اختار ريكس تيلرسون وزيرا للخارجية المعروف عنه صداقته لروسيا!.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى ضم فريقه شخصيات مسؤولة عن الدفاع على رأسهم جيمس ماتيس كوزير للدفاع وهم يريدون الحفاظ على تحالفات الولايات المتحدة العسكرية الخارجية. وهكذا حرص ماتيس أمام لجنة الكونجرس على تبديد مخاوف الحاضرين مما رشح عن ترامب من رغبة في التقارب والصداقة مع روسيا والتراجع عن دعم الناتو، حيث أقر بأن روسيا تحاول تدمير الناتو وطالب الولايات المتحدة بتقوية علاقاتها مع الحلف لا إضعافها، كما قلل من فرص تعاون بلاده مع روسيا في سوريا، ورفض إلغاء الاتفاق النووي مع إيران برغم انتقاده لهذا الاتفاق. ومن جهة ثالثة ضم الفريق شخصيات متشددة من ناحية الوازع الديني مثل مايكل فلين الذي اختاره مستشارا للأمن القومي ومعروف عنه عدائه لما يسمى بالإسلام السياسي. والقصد من هذه التشكيلة التي تبدو متناقضة مع بعضها البعض هو أن تتعزز فرص ترامب في المساومة السياسية، فإذا انفتح على روسيا يستخدم الأشخاص المتحمسين لذلك، وعندما تفرض عليه موسكو مالا يريده يدفع إلى الواجهة بالمناوئين لذلك (وزارة الدفاع)، وإذا أراد الانفتاح على العالم الإسلامي دفع بوزارة خارجيته لتولى الملف، ولكن عندما يستشعر ما يغضبه من «الإسلام السياسي» يدفع بالرافضين له من الأمن القومي.

هي سياسة متوازنة تضمن في المقام الأول مصالح الدولة والشعب الأمريكي. ولكنها معقدة ومتشعبة الفاعلين مما يجعل الطرف الآخر كحالة صانع القرار في المنطقة العربية مثلا كمن يسير في حقل من الألغام لا يعرف من أين سيأتي اللغم الأمريكي وما هو الطريق الخالي فعلا من الألغام.

المشهد الأمريكي أمام الحاضرين للقمة العربية المقرر عقدها في مارس المقبل معقد للغاية. كان سهلا نسبيا في عهد الإدارة السابقة من حيث التوجهات وأسلوب العمل بغض النظر عن النتائج المحبطة منها.

هناك الشحيح من الأفكار التي رشحت من إدارة ترامب حول قضايا المنطقة العربية وهى لا تبعث على الاطمئنان من الوهلة الأولى.. انحياز مبالغ فيه إلى إسرائيل، ولا تعتبر الأسد هو المشكلة وإنما الجماعات الجهادية وتترك الملف السوري برمته لروسيا وإلى حد ما لتركيا، وتضع الأولوية للقضاء على داعش دون أن تعلن سياسة أو دور أمريكي محدد في هذا الصدد. هل تعلن إقدامها على الحرب مباشرة وبقوة كما حدث مع طالبان في أفغانستان وتدفع وحدها الفاتورة أم بتشكيل جديد للتحالف يدفع فيه الآخرون فاتورة الحرب، أم لديها طريقة أخرى، ما هي طبيعتها ومن هم أطرافها؟. ليس هناك وضوح في هذا الهدف، والأرجح أن الغموض مقصود من إدارة تهوى المساومة.

الأطراف العربية المشاركة في القمة مجبرة على أن تتصدى لهذا الملف الجديد، أي كيفية التعامل مع إدارة أمريكية مختلفة إلى حد كبير عن سابقتها، إدارة مستقبلها السياسي يثير التساؤلات، فليس من المستبعد أن تنقلب الدولة العميقة عليها والتاريخ الأمريكي ليس خاليا من حوادث إبعاد أو احتواء رؤساء أمريكيين كانوا بمثابة الصداع الحاد في رأسها، وبنفس الأهمية يمكن لهذه الإدارة أن تستمر خصوصا في ظل سيطرة مطلقة من الجمهوريين على مجلسي الكونجرس. نعم هناك ضرورة للحذر والتروي، ولكن هناك خطوات «للمناعة السياسية» يتعين على المشاركين في قمة الأردن أن يتفقوا عليها حماية لأنفسهم فرادى أولا، وكجماعة واحدة ثانيا.