yousef
yousef
أعمدة

راحلون

19 يناير 2017
19 يناير 2017

يوسف القعيد -

وهكذا أصبح حالنا مع نهاية العام. نجلس لنحصي كم الذين رحلوا عنا في هذا العام؟ كم مرة جلس الإنسان في صيوانات العزاءات لكى يقول للجالس بجواره: تعيش وتفتكر. ثم يطلب الرحمة لمن مات. لا يمكن أن يتساوى هذا الميت بذاك. فالفروق الفردية حتى في الموت لا بد أن تكون حاضرة وموجودة.

كم هو عصي على الفؤاد أن أجلس لأكتب عن الذين رحلوا عنا في سنة 2016، وقبل أن أحصيهم أقول لنفسى: كم كانت قاسية هذه السنة علينا جميعًا. ويعجز خيالي عن تصور كيف تقبلنا رحيلهم وتأقلمنا مع غيابهم وحاولنا باستمرار في الحياة بدونهم. دون الود والبهاء والألفة التي كان يسببها وجودهم في حياتنا.

البعض منهم لا أتصور أنه غادرنا ورحل حتى الآن، رغم مرور سنة على الرحيل. وما زلت أتصور أنهم معنا. وأن الإنسان يمكن أن يمسك التليفون ويطلب رقم الغائب الذي من المستحيل أن يجلس على مقعد الغياب ليسمع صوته فوراً. ينطبق هذا الكلام تماماً على أستاذ الأساتذة، الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي ما زلت أتصور أنه في رحلة خارجية طالت أكثر مما ينبغي وأنه لا بد للمسافر أن يعود، وللغريب أن يؤوب، ولمن استأذن لبعض الوقت في الانصراف أن نراه مرة أخرى.

عندما بلغ الأستاذ هيكل سن الثمانين، كتب مقالاً مهماً في جريدة الأهرام، كان عنوانه: استئذان في الانصراف. كان يستأذن قراءه وعشاقه ومحبيه في أن ينصرف. وكان الاستئذان ينصب على الكتابة فقط، استئذان من الكتابة. لكنه قابل قراءه ومحبيه ومتابعيه ومعجبيه عبر برامج تليفزيونية، بعد أن أعاد الأستاذ إنتاج نفسه وأطل علينا إما محاورًا، وإما متحدثًا، يحكي ويقول ويتكلم. ومن كانوا يلهثون وراء أحرف كلماته المنشورة أصبحوا ينتظرونه عبر شاشات التليفزيونات لكي يسمعوه يتكلم أمامهم بالصوت والصورة.

كم كانت سنة قاسية. ففي هذا العام أيضا رحل الفنان محمود عبدالعزيز. كنت أعرفه وكنا نلتقي قليلاً. لكن اللقاء كان يعوض الغياب الواقع بين لقاء ولقاء. عندما أخرج منير راضي فيلمه: زيارة السيد الرئيس، عن روايتي: يحدث في مصر الآن، جمعتني بمحمود عبدالعزيز صلة شبه يومية طوال فترة التحضير للفيلم. ثم خلال تصويره.

عندما كان بشير الديك يكتب المعالجة السينمائية للرواية. أتى من قال لنا أن الفنان عادل إمام يمكن أن يلعب بطولة هذا الفيلم. وهكذا أعدنا النظر في السيناريو وجرى تكبير دور عادل إمام ولو على حساب الأدوار الأخرى. لكن اتضح لنا أن الأخ الذي تكلم باسم عادل إمام يبدو أنه تطوع وتحدث نيابة عن عادل إمام دون أي علم لعادل إمام.

وهكذا ذهب الدور لمحمود عبدالعزيز، الذي مثل وغنى وقدم دوراً كوميدياً لم تكن المرة الأولى في حياته. لكنه كان فناناً حتى أطراف أصابعه. تمثل الدور وأدرك دلالاته وفهم مراميه السياسية. وأعاد إنتاجه أمام الكاميرا كأنه مبدع الشخصية وليس المؤلف. لم ينطق بكلمة واحدة عن أمريكا وسياسات أمريكا وموقفنا من أمريكا. لكنه جسد كل هذا من خلال أداء فني راقٍ بعيد شديد البعد عن المباشرة والخطابة السياسية.

ومن أهل الفن الذين رحلوا الفنان حمدي أحمد، أصابته عدوى السياسة في سنوات عمره الأخيرة. أصبح عضواً في أحد الأحزاب المعارضة. وأخذ الموضوع بالجدية التي أخذ بها كل قضايا عمره وأمور حياته. كنا نكتب معاً مقالاً أسبوعياً في جريدة الأسبوع التي كان يصدرها ويرأس تحريرها زميلنا وصديقنا مصطفى بكري. وتقابلنا في أكثر من مناسبة. وكان لديه حضور سياسي نادر.

أذكر أن أكثر ما كان يضايقه تركيز الناس على دوره في فيلم: القاهرة 30، المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ: القاهرة الجديدة. ولعب فيه دور محجوب عبد الدايم. صحيح أنه أدى الدور بإتقان لا يقل أهمية عن الإتقان الذي أبداه نجيب محفوظ وهو يكتب روايته: القاهرة الجديدة. والذي قال لي أحد السياسيين أن الرواية كانت نبوءة من نبوءات ثورة 23 يوليو 1952.

في أحد الرمضانات الماضية، التي ربما كانت قريبة منا كنا في قرية. وكان مضيفنا فلاحاً مصرياً. وفرحت عندما وصلت ووجدت حمدي أحمد ضمن المدعوين. حرصت أن أكون بجواره. وأهم مما قيل ومن الخطب التي ألقيت والأشعار التي تليت، كانت تعليقات حمدي أحمد لي ونحن نتجاور في الجلوس. كان حضوره أهم من الحضور الذي حولنا. وكان كلامه أكثر حميمية من الكلام الذي قيل والشعر الذي ألقى.

دكتور بطرس غالي عرفته وما عرفته. كان بعيداً عندما كان يعمل في السياسة الخارجية. وحتى عندما أصبح أميناً عاماً للأمم المتحدة، أصابتني حالة من الاعتزاز الوطني والقومى. أن أحد أبناء بلدي أصبح في هذا الموقع العالمي المهم. لكننا تعاملنا معًا عندما أصبحت عضوًا في المجلس القومى لحقوق الإنسان. وكان هو رئيسه.

ظللنا في المجلس القومى لحقوق الإنسان حتى جاء الإخوان لخطف مصر. وليس لحكمها. ونهب مصر وليس لإدارة أمورها. وهكذا جرى تشكيل مجلس آخر لحقوق الإنسان أبعدت منه كثير من العناصر منها: بطرس غالى، محمد فايق، وكاتب هذه السطور.

في اجتماعات المجلس القومي لحقوق الإنسان لاحظت على الدكتور بطرس بطرس غالى خفة ظل وقدرته على الفكاهة، فكاهة ربما كانت نادرة من رجل قضى حياته كلها في العمل السياسي. كان صوته قد أصبح واهناً. وقدرته على استخدام الجمل الطويلة لم يعد لها وجود. لكن جذوة الشخصية المصرية تجلت في سلوكياته وتصرفاته وتعليقاته على ما يجري لحقوق الإنسان في بر مصر.

ما أكثر الذين رحلوا خلال هذا العام. لكني أتوقف أمام بعضهم، خصوصًا من عرفتهم وتعاملت معهم وكانت بيني وبينهم تجارب إنسانية. حتى الذين لم أعرفهم ولم تحدث بينى وبينهم صلات من حقهم علينا أن نكتب عنهم بالتحديد عن مزاياهم وعما أضافوا لنا وللمصريين وللأشقاء الأحبة العرب والإخوة من المسلمين من إضافات. أما الذين لم يضيفوا فلا أعتقد أن تلويحة الوداع لهم يمكن أن تتوقف أمام ما لم يفعلوه. يكفينا أن نكتب عمن أضافوا.

ونلتقي..