أفكار وآراء

علامات التعافي أو التأزم

11 يناير 2017
11 يناير 2017

مصباح قطب -

اعتدنا لسنوات طويلة، كمحررين اقتصاديين، أن نراقب مع من يراقبون، مستويات المخزون الأمريكي من النفط، بعد أن أصبحنا نعرف أنه كلما زاد السحب من المخزون، دل ذلك على زيادة في الطلب على النفط وبالتالي تميل التوقعات إلى انتظار زيادة في سعر البرميل، وكلما زادت المخزونات دل ذلك على تباطؤ الطلب وبالتالي اتجاه الأسعار إلى التراجع.

ما تقدم واحد من المؤشرات المعروفة لقياس مستوي النمو الاقتصادي في العالم كله باعتبار أن النمو كلما ارتفع زاد استهلاك الطاقة وإذا حصل تباطؤ أو ركود يقل استهلاك الطاقة. وهو مؤشر ليس من مؤشرات الاقتصاد الكلى المعروفة (نمو- تضخم- بطالة- فقر- دين- عجز إلخ)، لكنه مفيد ودال فعلا.

أريد في مقال اليوم أن تتطرق إلى ذلك النوع من المؤشرات الذي يمكن من خلاله بناء تنبؤات أو توقعات أو تقديرات موقف- بلغة العسكريين- للحالة الاقتصادية في أي بلد. المؤشرات التي تقوم على مستويات من التقدير والتقييم الذاتي أو شبه الموضوعي، أكثر منها مؤشرات محددة وتقود إلى مردودات واضحة.

من ذلك مثلا إنني أتابع كما يتابع غيري البيانات التي تصدر عن زيادة أو نقص عدد منصات الحفر في مجال النفط، كواحد من المؤشرات المهمة التي تنتظرها الأسواق لتتعرف من خلالها على اتجاهات سعر النفط، وحجم الإضافات الجديدة في الطاقة الإنتاجية المتوقعة، مسبقًا، ومدى إمكان معاودة شركات الطفلة الزيتية العمل من عدمه أو توسيع نشاطها أو عدم توسيعه.

يدل هذا المؤشر حين يرتفع العدد إلى أن شهية المستثمرين مفتوحة للبحث والتنقيب والاستكشاف والتنمية، وانهم بالتالي يتوقعون عوائد أعلى، ما يعني أن سعر النفط سيكون أفضل وأكثر جدوى اقتصاديا والعكس بالعكس، فكلما قل عدد المنصات، أو كلما انسحب عدد أكبر منها من العمل، دل ذلك على أن أسعار النفط غير مواتية، وإنها لا تشجع الشركات على الاستثمار، وان السيولة التي كانت تأمل أن تعمل في هذا القطاع ستبحث عن فرص أخرى. كما هو معروف أيضا فان هناك حدًا أدنى لسعر برميل النفط لا يمكن تحته للشركات التي تستخرج النفط من الطفلة الزيتية أن تعمل، وتلك الشركات ترقب هي الأخرى مؤشر عدد منصات الحفر هذا لكي تتأهب لاتخاذ قرار الاستثمار المناسب.

وعلى النهج نفسه يمكن لأي واحد منا أن يحكم على مستويات النمو والاستقرار الاقتصادي في أي بلد،  من ملاحظة عدد الأوناش البرجية (التي تستخدم لإقامة المباني العالية) المنصوبة في مدن الأقاليم، وقد كان لافتا لي رؤية أعداد هائلة من تلك الأوناش خلال زيارات متعددة للصين ولمدن متعددة في كل مرة، فالنشاط القوي في مجال البناء وتشييد من النادر أن يحدث أو فلنقل من المستحيل أن يحدث إلا في حالات تعافٍ اقتصادي أو انطلاق إلى التعافي، وقد اتخذت لنفسي مؤشرًا خاصًا انطلاقا من تلك الملاحظة في كل زياراتي لبلاد ودول العالم المختلفة، ومن حسن الحظ أنه يمكن دائما في موضع ما من أي مدينة أن تلتقط صورة كافية عن كثافة أو عدم كثافة تلك الأوناش، وأن تلاحظ التغير إذا قمت بزيارة أخرى بعد فترة معينة، بل والطريف أن (الوناشين) الذين يقودون تلك الاوناش هم أعداد قليلة في كل بلد، ويمكن أن يكونوا بمثابة ناد مغلق، فعمل من هذا النوع يحتاج مهارة عالية...

انتقل أيضا إلى مشاهدة أخرى توضح مستوى النشاط الاقتصادي في البلد، وانا هنا أتحدث عن المشاهدات اللماحة دون تعقيد فالمعلوم أن مستويات النمو العام أو القطاعي في كل بلد يتم إعلانها بشكل دوري ووفق معايير عالمية متعارف عليها لكن ما أتحدث عنه هنا الملاحظات ذات الدلالة كما قلت.

مثلا يعتقد الدكتور رضا العدل، وهو واحد من أساتذة الاقتصاد المرموقين في مصر أن كثافة مرور الشاحنات على الطرق تحدد له هو نفسه افضل من أي مؤشرات أخرى، مستوى النشاط الاقتصادي في البلد، ويذهب الدكتور رضا إلى ما هو أبعد فهو يرى أيضا أنك كلما بحثت طويلاً عن من يساعد - تساعد زوجتك في المنزل، ولم تجد رغم الأجر المعقول، فاعلم أن معدل البطالة الحقيقي في هذا البلد قليل، والعكس صحيح، كلما طرق بابك كثيرون بحثا عن عمل فاعلم أن البطالة الحقيقية مرتفعة حتى، ولو كانت المؤشرات الرسمية مختلفة عما توضحه المشاهدة.

كل منا إذن يمكن أن تكون له طريقته في تقييم الموقف المعقد الذي يسمي (الوضع الاقتصادي) وهنا فالفلاحون البسطاء مثلا لديهم طريقتهم الخاصة في تقييم الأوضاع المختلفة وملاحظاتهم الخاصة حول المؤشرات المختلفة حيث يعرفون أن معدل التضخم (ارتفاع الأسعار) عال عندما يلاحظون تشدد الباعة في التمسك بالسعر والتمسك بالمكيال الدقيق أي الذي ليس فيه أي قدر من المجاملة التي اعتادها الاثنان (البائع والمشتري)  في الأوقات العادية، ولهم في ذلك مثل يقول «غلا وسوي كيل» أي أن ميزان الكيلوجرام يكون كيلوجراما بالضبط من السلع المراد شراؤها دون أي زيادة عندما تكون الأسعار مرتفعة، وعندما تنخفض الأسعار فإن الباعة أنفسهم هم من يبادرون إلى مجاملة زبائنهم بإضافة زيادة إلى الموزون.

قال الدكتور محمود عبدالفضيل -أحد أعلام الجمعية العربية لعلم الاقتصاد- مبكرًا أنه لم يعد هناك ما يسمي بالسوق أو وضع السوق، فقد أصبحت هناك أسواق، قد يتباطأ بعضها في الوقت الذي ينمو بعضها الآخر، أي انه لم يعد شرطًا أن يعم الركود -إذا حدث- كل أسواق البلد، وكان  الدكتور عبد الفضيل كثيرًا ما يضرب المثل بقطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الذي يواصل النمو حتى في الحالات التي يضعف فيها النمو الاقتصادي ككل، بل ويقول انه داخل السوق الواحد، يمكن أن تنتعش مبيعات سلعة أو أكثر في الوقت الذي يصيب فيه الركود هذا السوق القطاعي في المجمل.

انطلاقًا مما تقدم فقد بات كثيرون يعتقدون أن معدلات شراء الهواتف النقالة الحديثة ومعدلات الاستهلاك في قطاع الاتصالات أصبحت تدل على أن الوضع الاقتصادي جيد أو سيئ حتى لو تعارض التقدير المشتق من هذا المؤشر مع المؤشرات الرسمية للنمو الكلي أو القطاعي. هناك أيضا من يولي اهتمامًا كبيرًا بمبيعات الوحدات التجارية المتوسطة والفاخرة في المدن الكبرى كدليل على انفتاح شهية مجتمع الأعمال للاستثمار وللعمل، ومما يؤسف له أن جهات قليلة في العالم العربي هي التي ترصد هذه الحالة على الرغم من أن النشاط العقاري يستحوذ على اهتمامات واسعة من مجتمع الأعمال والميديا ومن مؤسسات كثيرة تخدمه وتتعيش عليه استشارية وفنية وتسويقية  وغيرها.

هكذا، يستطيع المواطن العادي الذي لا يفهم بيانات البنك المركزي الأمريكي ولا بيانات البنك المركزي لبلده، ولا يفهم تقارير وزارات التخطيط والمالية في بلده أو صندوق النقد والبنك الدوليين، أن يعرف وضع اقتصاد بلده بهذا القدر أو ذاك من خلال الآثار التي ستنعكس عليه من جراء هذا الوضع الاقتصادي أو من ملاحظته بشأن ذلك. أنها عملية أشبه بتلك التي يقوم بها قصاصو الأثر في الصحراء لمعرفة من مر؟ إنسان أم حيوان؟  ومتى؟ باستخدام مهارات خاصة.  أو هي أمر أشبه أيضا بالمواهب الاستشعارية التي منحها الله سبحانه وتعالى للكائنات والحيوانات التي تعيش في المناطق التي تكثر فيها الزلازل والبراكين.

[email protected]