أفكار وآراء

مؤتمر باريس ..المأمول والمتوقع والمحتمل

08 يناير 2017
08 يناير 2017

عماد عريان  -

إذا كان عام 2016 قد أغلق صفحاته بتطور مهم على صعيد الصراع العربي الإسرائيلي، متمثلا في قرار مجلس الأمن الدولي الخاص بإدانة الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة مصحوبا بهجوم أمريكي «شرس» وانتقادات حادة من أركان إدارة الرئيس باراك اوباما لحكومة نتانياهو لإضاعتها فرص التسوية ومراوغاتها المستمرة إزاء حل الدولتين (!!)، فإن بدايات عام 2017 لن تكون أقل إثارة.

حيث ينتظر أن يلتئم بعد عدة أيام شمل مؤتمر باريس للشرق الأوسط, وهو المؤتمر الذي تم تأجيله أكثر من مرة نتيجة ظروف إقليمية ودولية عديدة، ويعقد كذلك كما هو مقرر له وسط ظروف مضطربة وأجواء ضبابية نتيجة التحولات السياسية العديدة التي طرأت عبر ضفتي الأطلنطي وعلى رأسها بالقطع رحيل إدارة اوباما الديمقراطية وتولي إدارة ترامب الجمهورية بعد أيام، بينما أعلن الرئيس الفرنسي فرانسوا اولاند راعي المؤتمر عدم ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة لتدخل فرنسا في دوامة انتخابية جديدة قد تبدل الأمور من حال إلى حال، في حين يتملص نتانياهو كالعادة من كل مسؤولياته فضلا عن أنه هو شخصيا يواجه تهما عديدة بالفساد قد تنتهي به إلى العزل وربما السجن.

ويؤكد ذلك أن مؤتمر باريس ذاته يتعرض لحالة من «اللا يقين» فيما يتعلق بأعماله ونتائجه، وهناك بالفعل فجوة كبيرة بين المأمول والمتوقع والمحتمل من النتائج والقرارات لهذا المؤتمر الذي كان من المفترض أنه يعقد وسط تطورات أكثر ايجابية بالنسبة للقضية الفلسطينية بقرار مجلس الأمن والموقف الأمريكي الجديد الذي برزت في أعقابه ورغم ايجابيته مخاوف لدى أطراف عديدة من أن يأتي بردود فعل عكسية تزيد المشكلة تعقيدا بدلا من الاستفادة بالموقف الجديد والمتأخر، ولكن هناك مثل غربي شهير بلغات متعددة يقول «أن تأتي متأخرا أفضل من ألا تأتي أبدا» وفي لغتنا العربية أمثال كثيرة مشابهة على غرار «شيء أفضل من لا شيء» و«عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة»، فإذا ما أردنا تطبيق هذه الأمثال مجتمعة على التحول الأمريكي «الرهيب» تجاه القضية الفلسطينية في الأيام الماضية، فأغلب الظن أننا سنصطدم بفجوة ضخمة أو هوة عميقة ما بين النظرية والتطبيق لتلك الأمثال.

فقد جاءت المواقف الأمريكية الجديدة متأخرة جدا وفي الوقت الضائع غالبا إلى الحد الذي يجردها من كثير من قيمتها السياسية إن لم يكن جميعها، كذلك«الشيء»الذي قدمته إدارة اوباما وهي في النزع الأخير من حياتها السياسية لا يمكن الاعتداد به أو التعويل عليه كثيرا لغموضه الشديد وميلاده وسط ظروف سياسية غير طبيعية بحيث يصبح «اللاشيء» أفضل من هذا «الشيء» من وجهة نظر البعض على الأقل، أما العصفور الذي أراد اوباما وأركان إدارته تقديمه على سبيل الهدية أو الترضية لأصحاب الشأن فهو كالطائر الذبيح الذي يرقص ألما، ولا شك في أن هذا العصفور سوف ينضم إلى رفاقه العشرة على الشجرة ذاتها بلا أي فاعلية. الواقع أن التصريحات والمواقف الأمريكية التي جاءت على لسان المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن ووزير خارجية امريكا جون كيري بشأن الاستيطان وحل الدولتين حملت تحولات هائلة وغير معهودة من جانب واشنطن مثلما تابع العالم دون أي مواربة أو مراوغات، فقد كانت الإدانة شديدة لإسرائيل وحكومة نتانياهو على وجه الخصوص، بينما الانتصار للحق الفلسطيني في تجريم وإدانة الاستيطان والمستوطنات جاء واضحا وضوح الشمس.

هذه المواقف في حد ذاتها تستحق كل تقدير وتحية لو تم تقييمها بشكل مجرد بعيدا عن أي ظروف محيطة أو مناورات سياسية لا تخطئها عين، هذه المواقف هي دفعة معنوية وأدبية هائلة للشعب الفلسطيني ولكنها للأسف الشديد لن تسمن ولن تغني عن جوع، فقد جاءت في اللحظات الضبابية لأي إدارة أمريكية توشك على مغادرة البيت الأبيض، ومع احترامنا الشديد لما يسمى«الطابع المؤسسي» للولايات المتحدة التي لا تتغير فيها الإستراتيجيات ولا تتبدل فيها السياسات بشكل محوري، إلا أن هذا المبدأ لا يسري في هذه الحالة.وعلينا أن نتذكر قبل الخوض في عرض الموقف بكل أبعاده أن هذه المواقف الأمريكية تجيء في نهاية ثماني سنوات من حكم إدارة ديمقراطية برئاسة باراك أوباما، وبرغم أنه تولى السلطة وبين يديه خريطة طريق واضحة ورثها من سلفه جورج بوش الابن تقوم على تسوية الصراع بتطبيق تصور حل الدولتين، إلا أن كل الشواهد تؤكد أن القضية الفلسطينية تعرضت لتدهور حاد في عهد اوباما ولم تتحرك خطوة واحدة للأمام، بل إن الجانب الأكبر من تدمير قطاع غزة في اعتداءات إسرائيلية متواصلة تم خلال إدارة اوباما التي لم تحرك ساكنا.

وغني عن البيان في ضوء ذلك وحقائق أخرى أن ما عجزت واشنطن عن تحقيقه طوال ثماني سنوات من المستحيل تحقيقه في أسابيع محدودة من عمر الزمان، وكذلك لا نستطيع الجزم بأن «قلوب إدارة اوباما الرقيقة» قد حنت فجأة على الفلسطينيين وتذكرت حقوقهم المشروعة المهدرة، إلا أنها ناورت بهذه المسألة وتلاعبت بأطراف عديدة، وصحيحة تلك التحليلات التي ذهبت إلى أن تصويت واشنطن في مجلس الأمن على إدانة الاستيطان ليس حبا في الفلسطينيين ولكنه نكاية في الرئيس المنتخب دونالد ترامب وإدارته المقبلة وتوريطها في قرارات غير مرغوبة. بل نستطيع أيضا أن نذهب إلى أبعد من ذلك بالتأكيد على أن إدارة اوباما أتبعت في أواخر أيامها - وعلى غير المألوف - سياسة «الأرض المحروقة» أو هدم المعبد على رؤوس أطراف عديدة داخل الولايات المتحدة وخارجها وربما إرباك المشهد برمته بما يؤدي إلى نتائج مزعجة للجميع حتى للفلسطينيين أنفسهم فهي بموقفها هذا ألقت بكرات من اللهب في أيدي ترامب والحكومة الإسرائيلية، الأمر الذي جعل الكثيرين يتوقعون أن يشهد عام 2017 انتهاء حل الدولتين فعليا خصوصا بعد انتخاب دونالد ترامب وإعلانه عن نيته نقل السفارة الأمريكية إلى القدس ومواقفه وتحركاته الرافضة لإدانة الاستيطان الإسرائيلي من قبل أن يتولى منصبه رسميا، بل وصل به الأمر لشن هجوم على الأمم المتحدة ونظامها ككل وتهديده بالسعي لتغيير هذا النظام، وبالتالي فإنه وبرغم القرار الدولي2334 بإدانة الاستيطان فإن ذلك لا يعني فعليا عزلة إسرائيل دبلوماسيا أو إخافة نتانياهو والضغط عليه من أجل إنقاذ حل الدولتين.

ويصبح التساؤل مشروعا بالفعل هل كان من الأفضل للفلسطينيين التمهل حتى مجيء الإدارة الجديدة وسبر أغوارها الحقيقية وكشف أوراقها في موقع السلطة والتضحية بالقرار إلى حين،أم تعجل التصويت وصدور القرار مع كل ردود الفعل الجنونية التي صدرت من المسؤولين الإسرائيليين وأركان إدارة ترامب القادمة والتي غلب عليها موجات من الغضب العارم المصحوب بالتهديد والوعيد في حق الفلسطينيين وليس الإسرائيليين؟! لا ينطوي هذا التساؤل على إدانة أو انتقاد لأصحاب القضية فهم الطرف المضطهد على مدار العقود الماضية، ولكن المؤسف أن يدفعوا هم أنفسهم ثمنا باهظا للمناورات السياسية والألاعيب الحزبية من أطراف أخرى تمسك بأيديها خيوط التحكم في مقدرات غيرها من الدول والشعوب المستضعفة على وجه الخصوص، وليس خافيا أن القضايا الدولية الشائكة لم تحل فقط عبر القرارات الأممية التي تصدر عن مجلس الأمن أو غيره من الهيئات الدولية، وإلا لأمكن تسوية كثير من الصراعات في مراحل مبكرة، ولخرجنا جميعا إلى الشوارع نبتهج ونرحب ونهلل لقرار إدانة الاستيطان الذي سيظل كغيره «حبرا على ورق» ما لم تسانده قرارات جماعية دولية رادعة لتنفيذه على أرض الواقع.

وليس من المنتظر أن يتحقق ذلك في الأمد المنظور بعدما حولت إدارة اوباما الرئيس المقبل إلى نمر جريح بهذا القرار وغيره من القرارات المفاجئة بهدف إغراقه في مشاكل دولية كبرى مع توليه الرئاسة، والأزمة الجارية مع موسكو ليست استثناء من ذلك. لنعود مجددا لأمثالنا الشعبية ونتساءل:هل تطبق إدارة أوباما إستراتيجية «يا رايح كثر من الملايح» أم «يا رايح كثر من الفضايح»؟ ولذا فإن المحاولات الفرنسية تأتي في الغالب لمجرد تحريك ملف عملية السلام المترنح،حيث تنوي باريس طرح عدد من المبادئ لتسوية القضايا المهمة في الصراع مثل قضايا اللاجئين ومستقبل القدس الشرقية، ويخشى نتانياهو في الأسبوعين المقبلين وقبيل تولي ترامب أن يتم تقديم مشروع قرار لمجلس الأمن يروج للأفكار التي جاءت في خطاب جون كيري للتسوية كمزيد من التوريط لإدارة ترامب، وبالتالي فقد ينظر رئيس الوزراء الإسرائيلي لمؤتمر باريس كبديل يمكن التعامل معه لاحقا وتسويفه كعادته بدلا من مواجهة قرار جديد من مجلس الأمن،وقد يستمر في رفض المشاركة ولكن يمكنه الموافقة فقط على حضور لقاء في قصر الإليزيه مع محمود عباس ربما بعد عقد المؤتمر بدون المشاركة فيه، ولذلك يمكن القول إن المأمول من مؤتمر باريس قد يكون كثيرا، ولكن المتوقع والمحتمل منه لن يكون على مستوى الطموحات، وربما يخرج بقرارات تبدو مهمة ولكنها فقط لإعادة التذكير بالأسس التي يجب أن تكون عليها عملية السلام دون نقلة نوعية على أرض الواقع.