881517
881517
المنوعات

عصر القومية الشعبوية .. فوز ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.. مثالان اثنان فقط لهذا العصر الجديد

27 ديسمبر 2016
27 ديسمبر 2016

فرانسيس فوكوياما -

ترجمة قاسم مكي -

تشكل الهزيمة المذهلة التي ألحقها دونالد ترامب بهيلاري كلينتون خطا فاصلا أو نقطةَ تحوُّل ليس فقط للسياسة الأمريكية ولكن للنظام العالمي برمته.

إذ يبدو أننا ندخل عصرا جديدا للقومية الشعبوية يتعرض فيه النظام الليبرالي المهيمن الذي ظل ينبنى ويشاد منذ الخمسينات للهجوم من أغلبيات ديموقراطية غاضبة وملأى بالحيوية.

إن الانزلاق إلى عالمِ قومياتٍ متنافسة وغاضبة خطرٌ كبيرٌ بنفس القدر.

وسيشكل ذلك، إذا حدث، منعطفا جليلا مماثلا لسقوط جدار برلين في عام 1989. إن الطريقة التي فاز بها ترامب تكشف عن الأساس الاجتماعي للحركة التي حشدها.

فإلقاء نظرة على خارطة التصويت تظهر أن تأييد كلينتون كان يتركز جغرافيا في المدن الواقعة على طول السواحل الأمريكية في حين وقفت أجزاء من ريف أمريكا ومدنها الصغيرة بصلابة إلى جانب ترامب.

لقد تمثلت التحولات الأكثر إدهاشا في الانقلاب الانتخابي الذي حققه في بينسلفانيا وميشيغان وويسكونسن، وهي الولايات الشمالية الصناعية الثلاثة التي كانت راسخة في تأييدها للديموقراطيين في الانتخابات السابقة إلى حد أن كلينتون لم تهتم بإدراج ويسكونسون في حملتها الانتخابية.

لقد فاز ترامب بفضل نجاحه في كسب العمال المنظمين (في نقابات) والذين تضرروا من تفكيك الصناعة، واعدا إياهم بجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى من خلال استعادة الوظائف الصناعية التي فقدت. لقد شهدنا هذه الحكاية من قبل.

إنها حكاية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي حيث تركزت الأصوات المؤيدة له على نحو مماثل في المناطق الريفية والمدن الصغيرة خارج لندن.

كما أن هذا يصدق أيضا في فرنسا التي يصوت فيها ناخبو الطبقة العمالية للجبهة الوطنية بقيادة مارين لوبان، وهم الذين كان آباؤهم وأجدادهم قد اعتادوا على التصويت للحزبين الشيوعي أو الاشتراكي.

ولكن القومية الشعبوية ظاهرة أوسع كثيرا من ذلك.

فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين يظل مفتقرا إلى الشعبية وسط الناخبين الأكثر تعليما في المدن الكبيرة مثل سان بطرسبيرج وموسكو.

ولكنه يحظى بقاعدة ضخمة من المؤيدين في باقي البلد.

ونفس الشيء ينطبق على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يتمتع بقاعدة متحمسة من المؤيدين وسط الشريحة الدنيا المحافظة من الطبقة الوسطي.

وكذلك رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان الذي يتمدد مؤيدوه في كل مكان ما عدا بودابست.

ويبدو أن الطبقة الاجتماعية التي يتم تعريفها بحسب المستوى التعليمي الذي يتمتع به أفرادها قد صارت أهم شرخ اجتماعي في عدد لا يحصى من البلدان المصنعة وبلدان الأسواق الصاعدة.

وهذا الذي حدث بدوره مدفوع مباشرة بالعولمة ومسيرة التقنية التي يَسَّرَها النظام العالمي الليبرالي.

إنه نظام أوجدته إلى حد كبير الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1945.

وعندما نتحدث عن نظام عالمي ليبرالي فنحن نتحدث عن نظام عالمي للتجارة والاستثمار محكوم بقواعد تتولى تغذية نمو الاقتصاد الدولي في الأعوام الأخيرة. إنه ذلك النظام الذي سمح بتجميع هواتف آيفون في الصين وشحنها إلى الزبائن في الولايات المتحدة وأوروبا في الأسبوع السابق لعيد ميلاد المسيح.

كما أنه أيضا يَسّر انتقال الملايين من الناس من البلدان الأكثر فقرا إلى تلك الأكثر ثراء حيث يمكنهم الحصول على فرص أعظم لأنفسهم ولأطفالهم.

لقد تطابق أداء هذا النظام مع ما رُوِّجَ عنه.

ففي الفترة الواقعة بين عام 1970 وبين الأزمة المالية في عام 2008 تضاعف الإنتاج العالمي من السلع والخدمات أربع مرات مما أخرج مئات الملايين من الناس من وهدة الفقر ليس فقط في الصين والهند ولكن أيضا في أمريكا اللاتينية وإفريقيا جنوب الصحراء.

وتظل هنالك العديد من «اللايقينيات» الكبيرة فيما يخص هذه «الأمريكا» الجديدة.

ففي حين أن ترامب مُتَّسِق مع نزعته القومية في الصميم إلا أنه أيضا يساوم.

ما الذي سيفعله حين يكتشف أن البلدان الأخرى لن تتفاوض مجددا حول الاتفاقيات التجارية الحالية أو الترتيبات التحالفية وفقا لشروطه؟ ولكن أدرك الجميع الآن، وذلك يؤلمهم، أن فوائد هذا النظام لا تتساقط «لا تجد طريقها» إلى الناس كافة. فالطبقات العاملة في العالم المتقدم رأت وظائفها وهي تختفي مع نقل الشركات لجزء من عملياتها الإنتاجية إلى الخارج (عن طريق التعهيد والذي يعني فيما يعني حصول هذه الشركات على مكونات سلع أو خدمات عن طريق التعاقد مع مُزَوِّد أجنبي – المترجم) وذلك استجابة لسوق عالمية تحتدم فيها منافسة لا ترحم.

لقد تفاقمت بشدة هذه الحكاية المتطاولة الأجل بفضل أزمة القروض العقارية العالية المخاطر ( السب- برايم) في الولايات المتحدة عام 2008 وأزمة عملة اليورو التي ضربت أوروبا بعد عامين من ذلك.

وفي كلا الحالين فإن الأنظمة التي صنعتها الصفوة (وهي الأسواق المالية المُحَرَّرَة في حالة الولايات المتحدة والسياسات الأوروبية مثل عملة اليورو ونظام شينغن للهجرة الداخلية) شهدت انهيارا مثيرا في مواجهة الصدمات الخارجية.

لقد وقع عبء تحمل تكاليف هذه الإخفاقات مرة أخرى على العمال العاديين وليس على النُّخَبِ نفسها.

وطوال هذا الوقت ما كان يجب أن يكون السؤال هو لماذا ظهرت الشعبوية في عام 2016 ولكن لماذا استغرق ظهورُها مثل هذا الوقت الطويل. في الولايات المتحدة كان هنالك فشل سياسي بمقياس إخفاق النظام في أن يمثل تمثيلا كافيا الطبقةَ العاملة التقليدية.

فالحزب الجمهوري كان مُهَيمَنا عليه من قِبَل الشركات الأمريكية وحلفائها الذين جنوا أرباحا وفيرة من العولمة في حين أن الديموقراطيين صاروا حزبا لسياسة الهوية (تحالف للنساء والأمريكيين الأفارقة والأمريكيين ذوي الأصول الأسبانية وأنصار البيئة والمثليين) ما جعله يفقد تركيزه على القضايا الاقتصادية.

وينعكس فشل اليسار الأمريكي في تمثيل الطبقة العاملة في أرجاء أوروبا. لقد تصالحت الديموقراطية الاجتماعية (الاشتراكية) الأوروبية مع العولمة قبل عقدين من الزمان وأخذ ذلك الصلح شكل الوسطية البليرية ( نسبة إلى توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق عن حزب العمال) أو ذلك النوع من النزعة الإصلاحية الليبرالية الجديدة التي صمَّمَها الديموقراطيون الاجتماعيون أتباع المستشار الألماني جيرهارد شرودر في العشرية الأولى من هذا القرن.

ولكن الفشل الأوسع نطاقا لليسار كان نفس ذلك الفشل الذي حدث قُبَيل عام 1914 والحرب العظمى حين (حسبما عبر عن ذلك ببراعة الفيلسوف التشيكي البريطاني إرنستجيلنر) أُودِعَ خطابٌ مُرسَلٌ إلى صندوق بريدٍ عليه علامةُ « الطبقة» عن طريق الخطأ إلى آخر عليه علامة «الأمة.» إن الأمة غالبا ما تتفوَّق على الطبقة لأنها قادرة على الاستمداد من مصدر قوي للهوية هو الرغبة في الارتباط بمجتمع ثقافي عضوي.

ويظهر هذا الحنين للهوية الآن في شكل اليمين البديل الأمريكي وهو تشكيلة من جماعات كانت منبوذة في السابق وتتبنى القومية البيضاء في شكل أو آخر.

ولكن حتى بخلاف هؤلاء المتطرفين، بدأ العديد من المواطنين الأمريكيين العاديين في التساؤل عن سبب تكدس مجتمعاتهم المحلية بالمهاجرين وعن ذلك الذي فرض استخدام لغة صوابية سياسية لا يجب أن تتطرق إلى الشكوى من هذه المشكلة. هذا هو السبب في حصول ترامب على عدد ضخم من أصوات ناخبين أفضل تعليما ووضعا اقتصاديا وليسوا من ضحايا العولمة ولكن رغم ذلك شعروا أن بلدهم يؤخذ منهم.

ولا حاجة للقول أن هذه الدينامية شكلت أيضا أساس التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إذن ما النتائج الملموسة التي ستترتب عن فوز ترامب بالنسبة للنظام العالمي؟ على خلاف اعتقاد النقاد، يملك ترامب موقفا متماسكا خضع لتفكير مستفيض.

إنه قومي في السياسة الاقتصادية وكذلك فيما يتعلق بالنظام السياسي الدولي. لقد صرح بوضوح أنه سيسعى إلى إعادة التفاوض حول اتفاقيات التجارة الحالية مثل «نافتا» وربما منظمة التجارة العالمية.

وإذا لم يحصل على ما يريده فإنه على استعداد على التفكير في الانسحاب منها.

كما عبر عن إعجابه بالزعماء « الأقوياء» من أمثال بوتين الذين يحصلون في كل حال على النتائج التي يريدونها من خلال قراراتهم الحاسمة.

وهو بالتالي أقل وَلَهَا بالحلفاء التقليديين للولايات المتحدة مثل أعضاء الناتو أو اليابان وكوريا الجنوبية والذين اتهمهم بالاستفادة دون مقابل من النفوذ الأمريكي.

وهذا يوحي بأن مساندته لهؤلاء الحلفاء ستكون أيضا مشروطة بإعادة التفاوض حول ترتيبات اقتسام التكلفة الحالية لهذه المساندة.

من المستحيل أن تكون هنالك مبالغة في القول بخطورة هذه المواقف على كل من الاقتصاد الدولي والنظام الأمني العالمي.