880298
880298
شرفات

«وكالة الموصلي» لـلقرملاوي.. الموسيقى معراج الروح

26 ديسمبر 2016
26 ديسمبر 2016

إيهاب الملاح -

«فالمريد الحق يولد من رحم الهواية، في أية لحظة، ولأهون سبب..».

(رواية «أمطار صيفية» لأحمد القرملاوي)

في عالم خاص، تعبقه ألحان أوتار مشدودة، تتصاعد نغماته إلى السماء تطرب وتشجي كأنها تبتهل إلى الله أن يستمع أنينها وشكواها وتتضرع أن تخلص من هذا العالم بزيفه وصراعاته، إشكالاته ونفاقه، وتطرح مناجاة خاصة للمسرات والأحزان، تدور أحداث رواية الكاتب والروائي المصري أحمد القرملاوي «أمطار صيفية»، الصادرة أخيرة عن الدار المصرية اللبنانية 2016.

خلال السنوات الأربع الماضية، نشر أحمد القرملاوي، مجموعة قصصية بعنوان «أول عباس»، وروايتين هما «التدوينة الأخيرة»، و«دستينو»، حقق خلالها نجاحا ملحوظا، لفت الانتباه بحساسية فنية خاصة ولغة جزلة رصينة تعود بجذورها إلى ينابيع شعرية في روح وعقل كاتبها، وأخيرا بمزج واضح بين التأملات الذاتية والاستبطان الداخلي وبين قراءة العالم المحيط ومحاولة فك شفراته والتعامل معه.

عقب انتهائي من الرواية، لم أتفاجأ برأي الكاتب والروائي القدير إبراهيم عبد المجيد المدون على غلاف «أمطار صيفية»، كتب يقول:

«هذه رواية رائعة، في لغتها وتكوينها، عن الموسيقى، بلغة تحاول وتنجح أن تكون لها إيقاعات أسمى من الأرض. جديدة إذًا في موضوعها.. هل للموسيقي مكان في هذا العالم؟ بمعنى؛ هل للروح مكان فيه؟ الإجابة لا، لكن بعد أن تكون حصلت علي متعة هائلة من القص والصور الفنية، ومن الأحداث أيضًا. هذا الكاتب، أحمد القرملاوي، يغامر بخبرات جميلة ومعرفة عميقة بالفنون والآداب، لتقديم شكل روائي مغاير وممتع. استمتعوا بالوكالة المفتوحة على السماء، فللموسيقى أجنحة تستقر بها في أي مكان وزمان».

في «أمطار صيفية»، يوجه أحمد القرملاوي التحية إلى فن عريق وخبرة إنسانية فريدة «عالم الموسيقى والألحان والأنغام»، وما يشتمل عليه هذا العالم من مفردات تتصل به؛ الآلات الموسيقية وبالأخص «العود» الذي تبدو خبرة الكاتب به وبتفاصيله غنية ووافرة. وعبر خطين سرديين متوازيين، يتقاطعان في مواضع وينفصلان في أخرى، ينسج القرملاوي خيوط روايته التي تدور في فضاء مكاني تراثي يعود إلى عشرات القرون اسمه «وكالة الموصلي»، تتلاقى في فضاء الوكالة مسارات شخوص تتقاطع وتلتقي وتتواجه وتصل إلى مصيرها النهائي المحتوم.

بين الموسيقى والتصوف، الأنغام والذكر، الروحانية المحلقة والواقعية المجردة، تظهر تلك الثنائيات في أبعادها الدلالية العميقة عبر حركة شخوص الرواية التي يتصدرها الشيخ ذاكر صاحب الوكالة وشيخ الطريقة، وابنته الرقيقة الحالمة رحمة، وابنته السرية الألمانية «زينا»، و»يوسف» الشاب الرقيق الحالم أيضا الذي يتصدر منصة التدريب وتعليم عزف العود للمريدين، وأخيرا قسيمه المناقض «زياد» الذي تتغلب شروره على جانبه المضيء فيكون هو السبب في إحلال اللعنة ووقوعها على رأس الوكالة وقاطنيها وأصحابها.

في بناء روائي متماسك، وشخصيات إنسانية مقنعة، برزت مواهب القرملاوي التصويرية جلية؛ وقدرته على التقاط اللحظات الخاصة وتحليلها ورسم نماذجة البشرية وخلق الجو العام باللون والصوت والحركة، كما تبدو قدرته على خلق بناء متماسك ولغة وصفية مكثفة، ناعمة ومنتقاة، مولعة بالوصف، مهووسة بجماليات البلاغة الكلاسيكية، مع إشراقات تنبئ بومضات شعرية أصيلة، تبشر بامتلاك المهارة وحسن قيادتها في ما هو قادم من أعمال.

ربما في بعض المواضع قد يستشعر قارئ ما أنه تخايله أشباح استطرادات لا لزوم لها، لكنها لا تؤثر في مسار القراءة ولا تعوقه، أما استدعاءات الماضي فمجرد فلاشات حوارية، ولدينا دوما شحنة إنسانية متعاطفة مرة مع شاب يتعثر في الكلمات فيخشى التهتهة «شخصية يوسف»، كما ظهرت هذه الشحنة سابقا في مجموعته القصصية «أول عباس».

قد يشعر القارئ المدقق أن روح محفوظ تحلق قريبة من النص، أو أن الكاتب لم يبعد عن استيحاء الروح اللغوية لنجيب محفوظ العظيم في سردياته الخالدة، لكن هذا لم يكن بالقدر الذي يشعر بأن الروائي تماهي في لغة محفوظ أو تلبسته الروح المحفوظية بالكامل، ثمة أنفاس منه، لكنه ليس هو على إطلاق.

ربما تكون أسوأ قراءة لهذه الرواية تناولها من منظور ديني، أو أخلاقي بحت، أو جرّها لتكون ساحة مواجهة مباشرة بين الروحانية والمادية، أو بين الحس الأخلاقي الباطني والانفلات منه أو بالجملة اختزالها في ثنائيات متقابلة في صورتها المباشرة أو السطحية، ستكون هذه المداخل التقليدية (فلنقل الساذجة أو المباشرة) حجابا كثيفا يحول بين رؤية هذه الرواية في صفائها ونقائها اللغوي والموضوعي الرائعين.

يقدم أحمد القرملاوي في «أمطار صيفية» تجربة فنية فريدة، جمعت بين جنباتها خبرة التسامي بفن الموسيقى والوصول إلى الله/ المحبة/ الصفاء على أجنحة الأنغام والألحان، يوازي بين المقامات السبع ومراقي الترقي في طريق «الموصلية».

من أبرز المقاطع في الرواية، تلك المشاهد التي كتبها القرملاوي حول تاريخ الوكالة وعالمها القديم، ومنشئ الطريقة، الشيخ الموصلي، تتبدى قدراته التخييلية وتأليف تاريخ متخيل بالكامل لنموذج تراثي أسطوري تنبهر بفرادته وتستمتع بتتبع سيرته دون أن تقع في شراك الموازنة بين المرجع والخيال.

ورغم صغر حجم الرواية النسبي (222 صفحة)، ظهر احتشاد الكاتب بكامل وعيه وثقافته وخبراته الفنية في عالم الموسيقى واللحن والنغم، وهو ما بدا واضحًا في تشييده للرواية ومعالجته لشخوصها، كما أنها أيضا (أي الرواية) لا تمنح نفسها لقراءة متعجلة، أو سطحية، فكثافتها اللغوية وتداخل تفاصيلها، يستدعيان تركيزا ومتابعة كي لا تتوه الخيوط أو ينقطع خط القراءة العام.

جاء رسم الشخصيات -زينة وزياد ورحمة وذاكر والشخصيات المساعدة- محكمًا، محركًا للأحداث بشكل مقنع، وخاصة فكرة إدخال صوت روائي مغاير، صوت زينة، بعدما كنا نراها من خلال الراوي الكلي، غير المعلوم، قبل أن تظهر لتتحدث بصوتها وتضيف مزيدًا من التوضيح حول مسارات الأحداث التي تجري بعيدًا عن إدراك الراوي وتؤدي لمآلات الشخصيات والأحداث في النهاية، لم تكن فكرة مزعجة، بل مثلت إضافة جيدة لبنيان الرواية.

أما البطل الحقيقي هنا ففي ظني هو الوكالة؛ «وكالة الموصلي»، وكان الأجدر بالكاتب اختيار عنوان آخر يبرز هذه البطولة، بما يحمله المكان من أبعاد تراثية وروحانية يتجلى في الصراع الذي يحتدم حوله، وصولًا للنهاية المأساوية التي تعكس الأزمة التي يعيشها الكثيرون الآن. واستدعت النهاية العودة إلى مفتتح الرواية مرة أخرى بقراءة ثانية، من أجل غلق الدائرة وتكوين صورة كاملة للنهاية المأساوية.

هذه الرواية تعلن عن روائي موهوب وحساس، تنضج موهبته -مازالت- على نار هادئة وناعمة، استطاع توظيف خبراته الشخصية ومعارفه الموسيقية في خلق عمل روائي بديع يتيح لقارئه متعة تواصل حقيقية مع مفردات هذا العالم.

وربما كان ينقصه، فقط، كي يصل إلى هذه المرحلة في مشواره الكتابي، الاحتشاد والتركيز ولملمة جزء لا بأس به من نشاطه الخارجي ومتابعاته الاجتماعية ليركز في عمله هو، في قراءاته وكتابته، لتأتي هذه الثمرة الناضجة الشهية لتؤكد ما قلته من إعلان عن مولد روائي جدير بالقراءة والمتابعة.