شرفات

فنّ التفكير

26 ديسمبر 2016
26 ديسمبر 2016

محمود الرحبي -

أستيقظ من نومي صباحا، أو قبل الصباح بقليل، كما عودني منبهي البيولوجي. في ذلك الصفاء الذي تشعر فيه بأن العالم بين يديك، لسبب بسيط وهو أنه- أي العالم بشروطه واكراهاته- لم يستيقظ بعد؛ وبالتالي فإن قوانينه التي يتورط فيها الكاتب عادة، لكونه جزءا من حركة حياة لا يمكنه أن يعزل نفسه وأنفاسه عنها بسهولة. في تلك اللحظة من الصباح فإن خير ما أفعله هو الكتابة؛ الكتابة لمدة ساعة أو نصف ساعة. وإذا تعذرت أو تمنعت فإن القراءة هي الرديف المناسب.

يقول تشيكوف في إحدى قصصه الطويلة «السعادة تكمن في الوحدة»؛ ولكن بالنسبة للكاتب فإنها لن تكون وحدة بقدْر ما هي انفراد بشيء أثير: كتاب أو دفتر أو جهاز حاسوب. والصباح الباكر يوفر تأمينا لهذه الوحدة، أو لهذا الانفراد.

أمام الكتاب تتحول إلى متلق مسترخ تتراءى الحروف أمامك وتستحيل إلى مشاهد ورؤى وتصورات. وأمام الحاسوب تتحول إلى باثّ يحاول جاهدا أن يكون فنانا مختلفا. يحاول أن يفعل كما قال الجاحظ وترجمه عبدالفتاح كيليطو بطريقته «أن يجعل من الاستطراد فنا للتفكير».

«سنجعل من الاستطراد فنا للتفكير».. هذه العبارة العبقرية هي لأبي عثمان الجاحظ، وقد أوردها كيليطو شفهيا بتصرف، وذلك في معرض حديثه المرتجل وهو يقدم إحدى محاضراته أمام الجمهور.

هكذا إذن كان الجاحظ يفعل وهو يكتب؛ كان يبتكر فنا في التفكير قوامه الاستطراد، أو استطرادا قوامه التفكير..

وسط زحمة الحياة وإكراهاتها، لن يجد الكاتب وقتا للتفكير إلا أثناء الكتابة. وهو يعيش بين كل شيء ووسطَ كل شيء. هو جزء منها– أي الحياة - طالما أنه يعيشها وبتعقيداتها. صحيح أنه لم يساهم في تشكيلها أو لم يتورط فيها مباشرة أو أنه ربما يعيشها مكرها؛ ولكنه لا يستطيع أن ينبتّ عنها كليا. لا يستطيع أن يصوغ تميزه ويمارس إحجامه إلا عند عتبة خيار آخر، خيار الكتابة والقراءة. أن يعيش اليوميات مع العالم، ولكنه يعيش يوما آخر، مختلفاً، مع نفسه، في تلك اللحظة أو الفرصة الوحيدة التي يتشكل فيها التفكير. فرصة القراءة (حين يرى ما يريد) أو الكتابة حين يتدفق نشيطا بحرُ الوجدان والرؤى والآراء. الكتابة بأنواعها، أدبا، سيرةً، مقالا، غناء. كل ما يجره القلم ومصدره الأعماق هو مجال تفكير الكاتب، لشق حياته التي يختارها في زحمة المصائر.

ولكنْ كيف يميز الكاتب نفسه بعدئذ عن أقرانه من الكتاب؟ بأي وسيلة يشق طريقه الخاصة؟

في مذكراته «التقرير إلى جريكو» يقول نيكوس كازنتزاكيس: «إنني لا أفكر إلا حين أكتب»؛ لذلك كان كتابة السيري هذا إحدى علامات الأدب المضيئة والملهمة، وهو من أجمل ما ترجمه الراحل ممدوح عدوان.

يظل التمايز فقط في الفن. وبما أن كلمة «الفن» من التفنن والابتكار والتفرد و التميز ، سواء في فن الغناء أو كرة القدم أو حتى في فن التجويد القرآني، فإن الإجادة تكون في المقدرة الفنية. كذلك في الكتابة، فالتمايز بين كاتب وآخر يتجلى في مقدرته على صياغة نص بفنيات تُميزه عن نص آخر قد يحمل تفاصيل المعاش اليومي والعادي وأحيانا الفكرة نفسَها ولكن الصياغة أو التدخل الفني هو ما يمكن أن يميزه ويرفع من نصه وتفكيره. وهنا تميز الشعراء والروائيون والنقاد والباحثون في مقدرتهم على تحويل الاستطراد – الذي أورده الجاحظ - أوالانثيال والتعبير البوحي المباشر والمشترك إلى فنّ.

أعيد السؤال : ما الذي يميز كاتبا عن آخر؟ الناقد المغربي المعروف سعيد يقطين يورد في أحد كتبه البحثية ذات الطابع النقدي التساؤلي مثالا جميلا، بقوله: إننا حين نجمع عشرة كتاب مثلا ونمنحهم فكرة واحدة ثم نطلب من كل واحد منهم أن يكتب قصة أو نصا يدور حول هذه الفكرة، سنكتشف في المحصلة بأن الفكرة ظلت واحدة ولكن الصيغ تعددت.

والأكثر قيمة بين هؤلاء العشرة هو من يحول الفكرة إلى مادة فنية أكثر صمودا ودهشة. أن يصوغ فنياته، أي أن يصوغ تميزه، وبالتالي أن يحول الاستطراد إلى فن.