أعمدة

هوامش..ومتون : عندما زارنا «تولستوي»!

17 ديسمبر 2016
17 ديسمبر 2016

عبدالرزاق الربيعي -

[email protected] -

كيف يمكن لرواية كبيرة للكاتب الروسي الشهير ليو تولستوي كـ«آنا كارنينا» أن تتحوّل إلى عرض من تسعين دقيقة لم تنطق به كلمة واحدة، إذ اعتمد على الأداء الحركي، ومع ذلك شعرت بعد إسدال الستار أنّ جوهر الصرع في الرواية المنشورة في عام 1878م، قد وصلني،مثلما وصل للجمهور الذي شهده، ليس من خلال لغة الكاتب، بل من خلال لغة الأجساد!؟ فكانت درجة الاندماج، بين ما يجري على الخشبة، والجمهور عالية، بحيث حين ألقت بطلة العرض نفسها تحت عجلات قطار الأجساد البشرية، وسط تصاعد العزف الحزين الذي تماهى مع صوت العجلات، شهقتُ، وكادتْ أن تخرج من فمي صرخة، لولا نزول الستارة، وتصفيق الجمهور الذي أعقب ذلك، فذابت الصرخة في حنجرتي، ويقينا أنّ الكثيرين منهم شاركني هذا الشعور، ومن بينهم الشاعر العربي الكبير أدونيس الذي أجّل عودته إلى باريس يومين، بعد اختتام مهرجان «أثير» للشعر العربي، لمشاهدة عرض «آنا كارنينا» الذي قدّمته فرقة بوريس أيفمان للباليه بدار الأوبرا السلطانية مسقط، المأخوذ عن رواية تولستوي، التي قرأناها في مقتبل حياتنا، وكنّا، ونحن نلتهم صفحاتها، نذوب ألما على ما آلت إليه حياة « آنا» المرأة الأرستقراطية، الأم والزوجة، التي كانت تعيش مع زوجها» كارينين» وابنهما الصغير «سيرجي»، بعد أن تعرّفتْ على ضابط وسيم هو «الكونت فرونسكي»، فأحبته، وعاشت صراعا شديدا بين العاطفة، والعقل، وقد تفاقم الصراع، بعد أن انتشرت، بين أوساط ذلك المجتمع المخمليّ، شائعات حول العلاقة، هدّدت مصير حياتها الزوجية، لنستعيد قصّة سيدنا«يوسف»(عليه السلام) مع «زليخة» امرأة العزيز، لكنّ الدراما التولستويّة جعلت معاناة المرأة هي نقطة الارتكاز، وليس المعشوق الذي ظلّ خارج دائرة الصراع، بشكل كامل، ولم تجدِ كل المحاولات التي بذلتها«آنا» من أجل إرجاع حياتها الزوجية إلى ما كانت عليه قبل لقائها بـ« فرونسكي»، لذا تقرّر أن تهجر زوجها، وبالوقت نفسه، يتملكها شعور أن مشاعرها نحو «فرونسكي» بدأت تبرد، ويمتد الصقيع إلى علاقتها بالمجتمع الذي استهجن فعلتها، ووجدت نفسها منبوذة، ومعزولة، وفقدت احترامها لذاتها، فصارت فريسة للأفيون، واليأس، والحزن، ووقعت تحت وطأة صراع شديد بين « شخصين كانا يعيشان في داخلها: فمن الخارج كانت إحدى سيدات المجتمع الراقي أمام زوجها، وابنها، والجميع من حولها، أما الآخر، فكان امرأة غارقة في عالم العواطف» كما يقول بريس أيفمان، المدير الفني لأشهر فرق الباليه في روسيا، ومصمّم رقصاتها، وهو الذي ابتكر نوعا من الباليه أطلق عليه تسمية«الباليه النفسي»، فـكلّ عمل «بمثابة بحث في غياهب المجهول» كما يقول، في برنامج العرض الذي يختتم بقرار«آنا» إنهاء حياتها بإلقاء نفسها تحت عجلات القطار الذي دهس فلاحا أمام عينيها، في لقائها الأول مع « فرونسكي» واعتبرت ذلك نذير شؤم.

تلك هي الثيمة التي استقاها العرض من الرواية، وقام بتجسيدها بصريا على المسرح من خلال أداء الراقصين، والراقصات الذين قامت أجسادهم بسرد تفاصيل الحكاية، وترجمة المنطوق والملفوظ إلى فعل حركي، وأداء تعبيري، على إيفاعات موسيقى الشهير تشايكوفسكي، مؤلف «بحيرة البجع»، التي تعد من أشهر أعماله، إلى جانب«روميو وجوليت»و««كسارة البندق» و«الجمال النائم»، وغيرها من الأعمال الخالدة، وقامت بأداء الأدوار الرئيسة كليليا ليشوك، وأوليج ماركوف جولدين، وإيغور سوبوتين.

ومن المشهد الأول الذي يظهر به طفل يلهو بقطار صغير إلى المشهد الأخير يتصاعد إيقاع العرض الذي جاء متماسكا، معبرا عن جوهر الإحساس الشديد بالعاطفة التي تتأجج داخل قلب «آنا» التي استسلمت لعواطفها، ولم تستطع كبحها، فوجدت في تعرفها على «فرونسكي» متنفسا لتلك العواطف، لكنها وقعت فريسة لصراع مع الذات، من جانب، والمجتمع الذي استهجن فعلها، من جانب آخر، هذا الصراع ظهر على المسرح من خلال إدارة المخرج للمجاميع وفق تناسق حركي باهر،وأجواء كابوسيّة، تغلب عليها العتمة التي غلّفت ذات بطلة العرض، وهي تعيش هذا الصراع المرير، وكان للإضاءة دور في تعميق الحدث الدرامي، وقد ساهمت سينوغرافيا العرض في التعبير عن ذلك، فكانت أجساد الراقصين، والراقصات تحلّق بأجنحة لا مرئيّة في فضاء العرض، وتشقّ طريقها وسط الأرواح برشاقة، وخفة، وليونة ضمن حوار متّصل اختصر صفحات رائعة تولستوي التي وصفها فوكنر بأنّها «أفضل ما تمّت كتابته من روايات».