إشراقات

خــــطوات نحـــو العــلاج

01 ديسمبر 2016
01 ديسمبر 2016

د. صالح بن سعيد الحوسني -

حتى نستطيع أن نعمق من مبدأ الوحدة والإخاء بين المسلمين، وعدم الغلو والتنطع والتطرف فإنه لا بد وأن تكون هناك طرائق لعلاج هذا الوضع، وإرجاع المسلمين إلى وحدتهم وإخائهم وحب بعضهم بعضا، وذلك إنما يكون بضرورة التفقه في دين الله تعالى، وفهم القرآن فهمًا حقيقيًا خاليًا من الغبش في التصورات، وقيام العلماء بواجبهم؛ من النصح والتحذير من التعصب والتطرف، وعلى علماء الأمة النهوض بمستوى التفكير في عقلية الأتباع ببيان أن الخلاف أمر حتمي لا بد منه، مع التسليم بضرورة الخلاف بين البشر، وأيضا وضع التشريعات والنظم الرادعة لأسباب الغلو والتطرف.

شاءت إرادة الله تعالى أن يخلق الخلق متباينة أفكارهم، مختلفة اتجاهاتهم، متعددة ميولهم؛ وهذا يدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، ولقد كان الناس في جزيرة العرب قبل مجيء الإسلام يتفاخرون بأنسابهم وأحسابهم، لدرجة تصل إلى التطرف والغلو وهو ما أثار كوامن البغض والحسد وحب الانتقام فيما بينهم، وفتح ذلك الكثير من الصراعات والحروب الدامية التي أتت على الأخضر واليابس، فضعُفت شوكتهم، وساء حالهم، وتبدد أمرهم؛ ولم يكن لهم بين أمم الأرض أي حساب أو أي اعتبار أو شأن.

وهكذا جاء النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى هذه الأمة الممزقة التي انحرفت في كل شؤون حياتها ومعادها؛ فهناك انحرف في جوانب العقيدة والسلوك، والتصورات، وكان فيما نزل على قلب النبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- كفيلا بشعور الإنسان أن له هدفًا وقيمةً وكيانًا في هذا الوجود، فكان وجود التصور الصائب الذي يبين هدف وجود الإنسان ودوره في هذا الوجود، ونزلت الشريعة بإقرار مكارم الأخلاق التي هي من أهداف هذه الرسالة كما قال النبي الخاتم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، فهذه الأخلاق هي صمام الأمان الذي يحمي الأمة من الانحراف والتطرف والغلو.

وبهذه المبادئ القويمة، والتصورات الإيمانية الراقية، والأخلاق الحميدة العالية التي سلكها المسلمون الأوائل، انطلقت هذه الدعوة الإسلامية في شتى بقاع الأرض، وفُتحت لها قلوب الناس قبل حصونهم، ووجدوا فيها السكينة والراحة، والهداية وكانت تلك الأخلاق والمبادئ والمثل الكريمة برهان صدق هذه الرسالة، فامتلأت نفوس الناس إكبارًا وإعجابًا بتلكم النماذج الفريدة، التي صنعها هذه الدين الخاتم، فكانت أحوالهم وسيرهم وعهودهم ومواثيقهم تدلل بجلاء ووضوح صدق هذه الرسالة، فسارعوا لمشاركتهم خيراتها وحسناتها، فدخلوا في دين الله أفواجا.

ولكن دوام الحال من المحال، وما فتئ الزمان يدور دورته حتى استبدت ببعض ضعفاء النفوس حب الأثرة والظهور والرياء، والحسد والبغض وغيرها من آفات النفس المقيتة، فأظهروا تعصبا وتطرفا لا يليق وحكمة هذا الدين، فظهر التعصب للجنس أو النسب، أو المذهب أو القبيلة، ودخلت أفواج من الناس ممن يُحسبون على هذا الدين في هذا الصراع المقيت والتطرف الشائن، فاختلت موازين القوى، ودارت الدائرة على المسلمين، ووجد الشيطان مدخلا كبيرا واسعا للنيل من الإسلام وأهله، فضعفت الهمم لمعالي الأمور وانصرف الناس إلى محاولة الكيد لبعضهم البعض والتقليل من قيمته، بل ومحاولة النيل منه واستئصاله.

ونتج عن هذا التحول الخطير الذي أصاب مسيرة الأمة الإسلامية انتكاسة في الفكر، وغلوا في التصورات أدى إلى تحول ميزان القوى إلى أطراف أخرى؛ سحبت البساط من تحت أقدام المسلمين، وأصبحوا الموجهين لها لتنفيذ مخططاتهم ومؤامراتهم الدنيئة والحقيرة لتحطيم المسلمين، وأصبح الأعداء متفرجين وهم يحركون الصراعات، ويؤججون الخلافات، ويعّمقون الهوة بين المسلمين، حالهم كحال الدمى التي يحركها الممثلون في مسرح العرائس، وتلك الدمى لا حول لها ولا قوة، فأصيب المسلمون في مقتل من جراء هذه التحول، وصرفت الهمم والقوى في سجال متواصل فيما بينهم لإظهار الغلبة وكثرة الحضور والظهور، والأمر لله من قبل ومن بعد.

ومع أن القرآن العظيم، وسنة المصطفى الكريم قد حذرت أيما تحذير من مغبة الاختلاف، والتنازع، وسوء عاقبة التشتت، وما يؤول إليه الوضع من تبدد وتفرق وزاول كمثل قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)، بل بين أن التنازع هو طريق الفشل الذريع كما تشير إلى ذلك الآية القرآنية في قوله تعالى: (.. حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)، وقال تعالى مبينا مصير التفرق والاختلاف من العذاب العظيم: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)، وبين أن اتباع السبل المضلة يؤدي إلى الانحراف عن الجادة كما في قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، وفي المقابل جاءت الآيات داعية وحاضة على الوحدة والاجتماع ولم الشمل قال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا)، وقال أيضا: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ)، ويقول رسول هذه الأمة: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا»، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث المبينة لوجوب التعاون والإخاء، ونصرة المسلمين بعضهم بعضا، وجمع الكلمة، وترك التحاسد والتباغض ونحوها من آفات الفرقة والتشرذم والخلاف.

وحتى نستطيع أن نعمق من مبدأ الوحدة والإخاء بين المسلمين، وعدم الغلو والتنطع والتطرف فإنه لا بد وأن تكون هناك طرائق لعلاج هذا الوضع، وإرجاع المسلمين إلى وحدتهم وإخائهم وحب بعضهم بعضا، وذلك إنما يكون بالآتي:

- ضرورة التفقه في دين الله تعالى، وفهم القرآن فهما حقيقيا خاليا من الغبش في التصورات، فلا يمكن لمن فهم القرآن فهمًا صحيحًا أن يكون في قلبه تطرفا أو تعصبا لمذهب أو فكر، أو رأي، وإنما سرت روائح الغلو الكريهة في عقول المسلمين عندما تحجرت العقول، وسُدت نوافذ العلم الصحيح وعشش الجهل فيها وفرخ، فلم يجد نسيم العلم النقي العليل مدخلا إليها.

- قيام العلماء بواجبهم؛ من النصح والتحذير من التعصب والتطرف، وما جرأ الأتباع من النهوض بأشكال الغلو والتطرف للمذاهب و آراء الرجال إلا بعد أن وجدوا تهاونا من علمائهم، وسكوتا عن منكرهم، فتطاول السفهاء أولا، وأخذت الحمية المقيتة أشباه المثقفين فانخرطوا يُعملون آلة التعصب الأعمى لحز عصمة هذه الدين وقطع حبال الألفة والمودة بين الفرق المختلفة، وهو ما استتبع وللأسف أن يشترك بعض العلماء في التسويق، والدعاية الكاذبة لبعض المذاهب والمناهج على حساب بعضها بعضا، وتتبع السقطات والعثرات، وتضخيم الهنات البسيطة، والآراء المحتملة، وفي المقابل لم يكن للطرف الآخر والذي نِيل منه أن يقف مكتوف اليد خائر القوى، فاندفع يرد الصاع صاعين، والضربة بضربتين، فهُيجت الفتن العمياء، وثارت الدخائل النائمة، واستيقظت حظوظ النفس المقيتة فكان التراشق بين الطرفين متواصلا والحرب سجالا، حتى تطور الأمر إلى الفعل، فقتل المسلم المسلم، بل وانتهكت الأعراض وأُتلفت الأموال..ويا لعار أمة بلغت هذا الوضع المهين الحقير.

وعليه فإن على علماء الأمة النهوض بمستوى التفكير في عقلية الأتباع ببيان أن الخلاف أمر حتمي لا بد منه، وأن رأي المخالف مهما كان بعيدا عن الهدى والرشاد فإن احتمال الصواب فيه أمر وارد، فلا داعي للتهكم والاستخفاف بتلك الرؤى والأفكار، مع التسليم بضرورة الخلاف بين البشر، بل لو سلمنا ان ذلك الرأي لا نصيب له من الصحة أبدا، فإنما يكون التعامل معه بالحكمة والحوار والنقاش الهادف العلمي الرصين، القائم على الاحترام والتقدير وضبط النفس، وبيان الحجج والبراهين العلمية للوصول إلى الحقائق التي إن وجدت النية الصافية والإخلاص التام لدين الله تعالى لا تلبث أن تتلاشى الأفكار الطائشة وتتهاوى الآراء السقيمة أمام الحكمة والبرهان والخلق القويم.

- وضع التشريعات والنظم الرادعة لأسباب الغلو والتطرف: ومع أن الدين الإسلامي بتشريعاته المحكمة والصريحة دعا إلى الوحدة والاجتماع وحذر من التفرق والاختلاف إلا أن البعض انجرف مع تيار التعصب والتطرف فكان ولا بد وأن يكون هنالك من التشريعات والنظم ما يوقف المتنطعين والخارجين الذين يريدون لعقد هذه الأمة أن ينفرط بسلوكهم، بحيث لا تسول لهم نفوسهم المريضة أن يقدم على ذلك أبدًا.

وختاما فإن الحل في إرجاع تلكم الوحدة المنشودة إلى مسارها الصحيح ووضعها المتناسق هو بيد المسلمين باتحادهم واجتماعهم وتعاونهم وعندها سيعيد المسلمون مجدهم وعزهم ويكونون في ارتقاء وسعادة ووئام.