الأطر المادية والبناءات الإنسانية.. علاقات التضاد

25 ديسمبر 2022
25 ديسمبر 2022

يتم الحديث عن البناءات الإنسانية، وهو ما يذهب؛ تحديدا؛ إلى البناءات الاجتماعية، ولأن البناءات الاجتماعية جزء من كل، فإن البناءات الإنسانية بهذا المعنى؛ هي الحاضنة، ولذلك تستخدم في هذه المناقشة وفق هذا المفهوم، وبقد ما تفرضه حركة الحياة اليومية على الناس، فإن الأطر المادية، وما تضمه من محتوى مادي بحت، ومستوى التداخل الحاصل بين هذا المحتوى المادي المؤطر بالمادة أساسا، وبين مجمل النظم والعلاقات القائمة في البناءات الإنسانية، فإنه في المقابل هناك كم كبير من التداخل والتأثير، وعادة ما يدفع ثمن فاتورة هذا التداخل الباهظة هي البناءات الإنسانية، لأنها ترتكن إلى الجوانب المعنوية (الشعورية والنفسية) وتعلى أو تسقط من قدرها مجموعة القناعات، وهي ما تعكسه مجموعة من الإشباعات؛ يكون أحد هذه الإشباعات هي المحتوى المادي.

وللإجابة عن السؤال المطروح؛ يمكن النظر في أن الأطر المادية؛ ذات المحتوى المادي الصرف، لا يمكن أن تقوم عليها البناءات الإنسانية ذات النظم والعلاقات القائمة بين الناس، صحيح أن المادة هي الوسيلة الفارضة نفسها بقوة التأثير، لكن المادة ليست كل شيء، ولذلك فالمجتمعات الغارقة في هذه المادة، وتعتمدها على أنها المطية التي تعبر بها إلى عوالم الآخرين، سواء بقوة السلاح، أو بالقوة الناعمة، فإن في كلا الحالتين؛ تدفع أثمانا باهظة من أهم مكون لها، وهي "الإنسانية" حيث تتجرد الإنسانية في هذه البيئات، وتتماهى مع ذرات المادة، فلا يعد لها أي تأثير، ولذلك عندما يأتي فرد ما، من هذه البيئات المادية إلى بيئات أخرى تتناقض تماما عن ما يعيشه، ينصدم، ويصطدم، ينصدم بما يراه من أثر المساحة الإنسانية التي تشمل جميع تفاصيل حياة الناس في هذه البيئات من الرحمة، والتعاون، والتضحيات، والأمانة، واحترام الآخر، والبر بمن يستحق، وغيرها الكثير، ويصطدم بواقع يجد فيه نفسه، ويعلى من شأنه، وتؤازره قوى اجتماعية غير طبيعية "غير معتادة" في بيئته، وبذلك في كثير من الأحيان توجد هذه الصدمات في نفس متلقيها نوعا من ردات الفعل العكسية، وهي ردات أو انعكاسات إيجابية، فيبدأ يبحث عن جذور هذا الواقع الجميل، وقد يصل إلى الدين فيعتنقه بلا تردد، والدين هنا هو الإسلام دين الرحمة والمغفرة والتعاون والتآزر، والتكافل، وعدد من هذه المزايا على قدر ما تستطيع.

يذهب الفهم العام في التعريف بالأطر المادية، على أنها هي الأطر التي يمكن أن يقايض بمحتواها بمقابل مادي بحت (1+1 =2) وهي تخضع لمفهوم السوق (الربح/ الخسارة) وهي التي تتصادم مع الأطر ذات المحتوى المعنوي (والمعنوي هنا هو الإنساني/ الإنسانية) أي التي لا يمكن مقايضة محتواها بمقابل مادي، كالقيم الإنسانية؛ على سبيل المثال؛ بالإضافة إلى مجموعة من العقود الاجتماعية التي تعارف عليها الناس في مجتمعاتهم، وهي بمثابة نظم وقوانين يحترمها الجميع، لأنها تحقق لهم عائدا متعاضما من التآلف والتعاون، والتآزر، والتكامل، فالشجاعة، والكرم، والبذل السخي دون مقابل، والصدق، والأمانة، والتضحية، والتكافل، هذه كلها قيم إنسانية تعزز من البناءات الإنسانية؛ حيث تعلي من قيمة الإنسان في ذاتهن ويتلبسه شعور بالفخر؛ حيث قوته من قوة المجموعة التي ينتمي إليها، ولا يستشعر أي شيء من مفهوم الوحدة، أو الإقصاء الاجتماعي، فهذه قيم بطبيعتها رابحة، لأنها ذاتية المبادرة، ويمارسها الناس بلا تكلف، ولا انتظار لمقابل، ولذلك فالأطر ذات المحتوى المادي البحت هي كل الممارسات الإنسانية التي لا بد أن يكون مقابلها ماديا (وفق مبدأ النفعية المادية) وبالتالي فلا يشرع في ممارستها إلا من خلال الشرط بتحقق المقابل، وقد يعين هذا المقابل، وهو العقد؛ وهو "شريعة المتعاقدين" ويكون فيه تفاوض (أخذ وعطاء) حيث ينتفي مفهوم التضحية؛ بين مختلف الأطراف.

يقصد بالإطار هنا هو تلك الهوية التي تحدد نوع المحتوى الذي تحدده هذه الهوية أو تلك، فيحمل خصوصية معينة؛ لا يمكن أن تتشابك مع هوية أخرى؛ حيث تتميز كل هوية بخصوصيتها الموضوعية، وبنوع تأثيرها على الطرف المتلقي، وعلى نوع الذين ينتصرون لها، وعلى مدى قدرتها على المقاومة لمجمل التأثيرات الضاغطة بقوة لخلخلة تماسكها، أو إحداث نوع من الاختراق، لأنه لو حدث شيء من هذا لتغربت هذه الهوية وتماهت في هويات أخرى، ومعنى هذا أيضا أن المحتوى الذي تحيط به هويته "الإطار" قد يكون محتوى مادي، أو محتوى معنوي، وكلا المحتويين يضمان بين أطرهما الكثير من العناوين، وهذه العناوين تخضع كثيرا لمجمل التفاسير التي يصنفها الناس لها، فقد يكون المحتوى له دلالة مادية، ولكن ينظر إليه في ثقافة أخرى على أنه محتوى دلالته معنوية، والعكس صحيح، وبالتالي عند الحديث عن المحتوى وتصنيفه على أنه محتوى مادي أو معنوي، يجب أن لا يغيب عن الأذهان هوية هذا المحتوى حيث الانتماء إلى المجتمع، أيكون مجتمعا غنيا، أو مجتمعا فقيرا، ولا أقول مجتمعا متقدما، أو مجتمعا متأخرا، لأن تصنيف مجتمع متقدم ومجتمع متأخر يحتاج إلى كثير من التحديد في التعريف؛ فعموميات التعريف الشائعة أتصورها غير منطقية، فمقياس التقدم والتأخر خاضع لمفاهيم كثيرة، وبعضها دقيقة جدا، ولا يحتمل أن يكون المقياس المادي فقط هو الأصل، صحيح؛ في لحظة زمنية معينة قد يصطدم أحدنا ببيئة فيها التقدم المادي لا تستوعبه أذهاننا من أثر الصدمة، ولكن في المقابل لا توجد في هذه البيئة المادية أي لمسة إنسانية تستريح على أثره الأنفس، وتجد فيها ظالتها من الآمان والاستقرار النفسي، حيث تذوب الهوية الإنسانية بين متاهات دهاليز هذه المادة المتوحشة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن العلاقة بين الأطر ذات المحتوى المادي، وبين البناءات الاجتماعية علاقة طردية، ويحل الزمن المستقطع في هذه العلاقة ليشكل دورا محوريا، لأنه ومن خلال الزمن تنبني قناعات، وتتشكل مواقف، وهذه كلها لها تأثير غير منكور، على المستويين الفردي والجماعي على حد سواء، فالبناءات الإنسانية هي محور اهتمام لدى الجميع، وإن غربت المادة بعض المجتمعات لظروف خاصة أو طارئة عن انحيازها نحو هذا الاتجاه، ولكنها في حقيقتها هي تحن إليها، لأن هذه البناءات الإنسانية هي من الفطرة، ولن يغرد المفطور بعيدا عن فطرته؛ إلا لظروف غير طبيعية، ولذلك نرى اليوم ونقرأ ونسمع أن الكثير من المجتمعات التي غربتها المادة لظروف ما، تود اليوم قبل الغد للعودة إلى معاقل هذه البناءات، بل والإحماء بها من وحشية المادة المدمرة، وما هذه النزعات المستنفرة "العشوائية" أو الصيحات الناشزة عن الفطرة، إلا غثاء كغثاء السيل (فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) – الآية (17) الرعد -.

اليوم؛ أكثر؛ أكثر من أي يوم آخر مر على البشرية، تتوهج فيه النقاشات فيما يخص البناءات الإنسانية السوية، وهي البناءات التي تنحاز نحو الفطرة، ونحو القيم الإنسانية السوية، والقيم التقليدية التي قامت عليها المجتمعات المتوالية؛ حتى عصرنا الحالي، وهذا التوهج أو التفاعل ناتج عن مجمل ما يتداول بخصوص الطرق المستمر على أدق الخصوصيات عند الإنسان، دون أدنى تفريق بين ذكر وأنثى، وكأن المسألة يراد بها أن تكون العلاقة بين الجنسين علاقة يشاع فيها كل الممارسات المقبولة وغير المقبولة، المنطقية وغير المنطقية، والفطرية والمتنافية مع الفطرة، وتذهب المسألة إلى أبعد من ذلك من خلال تشريع وتأسيس ما يذهبون إليه في هذا الاتجاه، وهذا التوجه؛ حسب ما يروج له؛ لبناء الذوات الإنسانية، وإعطاء حرية التصرف بهذه الذوات لكي تصل إلى أعلى مستوى من الإشباعات العاطفية والنفسية، هذا أمر – لا مراءة في تقييمه – بأنه حق يراد به باطل جملة وتفصيلا، وأهدافه غير منطوية على أي ذي لب، ومن هنا يمكن القول أن هذا التحول؛ ولو أنه منطوي على مجسات معنوية، إلا أنه تسقط فيه المادة سقوطا مدويا، فتعمل على تحويل كل القيم الإنسانية التي تأسست عليها البناءات الإنسانية إلى قيم ربحية مطلقة، يدفع فيها الشرف، والرجولة، والأمانة، والشجاعة، لكبها في مكب النفايات، حيث تستعر المادة فيه استعارا غير مسبوق.