سنة غيرت كل شيء في ألمانيا

25 ديسمبر 2022
25 ديسمبر 2022

ترجمة: أحمد شافعي -

حلَّ الشتاء، وألمانيا مستعدة. بعد تخوفات من أن يلجأ البلد إلى تحصيص الطاقة، تمكنت الحكومة من ملء المخازن، فحل موسم الإجازات، في كامل حالته، كما كان دائما. المكاتب والشقق أبرد قليلا، لكن أسواق الكريسماس تنبعث منها رائحة القرفة ودهون القلي المطمئنة وشوارع المدينة مضاءة في سطوع.

لم يكن ذلك أمرا هينا. ففي الشهور العشرة المنصرمة منذ بدء فلاديمير بوتين حربه الشاملة لأوكرانيا، سارعت ألمانيا إلى البحث عن بديل لـ55% من الغاز كانت تحصل عليه من روسيا. وهذا الجهد، بالتوازي مع معاقبة روسيا، وإمداد أوكرانيا بأسلحة، وزيادة الإنفاق العسكري، بلغ من الضخامة حد أنه استحق مصطلحا جديدا هو: Zeitenwende "تسايتنفندي"، أي اللحظة الفارقة أو المنعطف التاريخي، بحسب ما تسمية المستشار أولاف شولتس. وبالطبع هذه الخطوة تتضاءل كثيرا عند قياسها بالصمود البطولي الذي أظهره الأوكرانيون. ومع ذلك فبالنسبة لبلد بدا عاجزا دون الغاز الروسي، فإن إضاءة أنوار الكريسماس تمثل إنجازا.

ومع ذلك فإن إحساس الوضع الطبيعي يبدو مؤقتا، بل زائفا. لأن هذا العام كان أبعد ما يكون عن الطبيعي. ذلك أن ألمانيا على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بل والأخلاقية تعرضت للمراجعة والتدقيق الشديد في أصولها الأساسية. وما كشفت عنه هذه الشهور العشرة كان بلدا يعيد تصور نفسه، بمعزل عن الثوابت القديمة. فلا يمكن أن يقاس التغيير بالدبابات والمدافع وأنظمة الدفاع الجوي التي سلمتها ألمانيا لأوكرانيا، وإنما بعمق علم النفس السياسي. فألمانيا التي ظلت على مدار عقود متفرجة على الصراعات الأوربية، مكتفية بالتعاطف، أعلنت هذه الحرب حربها الخاصة.

وقد جاءت الحرب في الوقت الذي أوشكت فيه ألمانيا على نسيان ما الذي تعنيه الحرب. إذ أن أبناء الجيل الذي خاض الحرب العالمية الثانية ـ منذ أكثر من 75 عاما الآن ـ قد بلغوا التسعينيات من العمر أو رحلوا عن عالمنا، والذين ولدوا في ظلالها، تتناقص سيطرتهم على الحياة العامة. والواقع أن الجيل الثاني بعد الحرب، أي مواليد ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، تولى المسؤولية السياسية بعد نهاية ولاية أنجيلا ميركل في خريف 2021، قبل شهور من غزو روسيا لأوكرانيا. إذ أن أولاف شولتس، وهو من مواليد سنة 1958 في ظلال الحرب العالمية الثانية، يشرف على مجلس وزاري أغلبه سياسيون أصغر سنا، أغلبهم في الأربعينيات وبدايات الخمسينيات من العمر. والأحزاب الثلاثة الحاكمة ـ أي حزب الديمقراطيين الاشتراكيين، وحزب الخضر، وحزب الليبراليين ـ لها أيضا قيادات من مواليد الجيل الثاني بعد الحرب العالمية الثانية.

ولهذا تأثيره. فهذا جيل لا يكاد يتذكر الحرب الباردة ونشأ بعد أن وضعت الصراعات الأيديولوجية أوزارها، متخففا من خوف نشوب صراع نووي. وقد بلغ الرشد والنضج في التسعينيات من القرن الماضي، بعد انهيار الاتحاد السوفييني، وتوحد ألمانيا، وما بدا للبعض أنه "نهاية التاريخ". فكانت الحرب بالنسبة لهذا الجيل ـ وهو جيلي أنا ـ محالا بعيدا مقبضا، شيئا يحدث في أماكن أخرى، إن حدث أصلا. فقد رأينا أن شعار "أبدا لن يتكرر" الذي تبناه البلد بعد الحرب لاستئصال فكرة الحرب من الذات الوطنية إنما يصف العالم وصفا دقيقا. وظننا أننا كبرنا بين أحضان السلام.

والحقيقة أن عقدي التسعينيات والألفينيات شهدا الكثير من العنف في أوروبا. فقد بدأت حروب البلقان الوحشية في 1991، والصراع حول انفصال ترانسنيستريا عن مولدوفا في عام 1992. وعلى مدار عقد استمرت حرب بوتين في الشيشان التي أعلنت بالقصف المروع لجروزني. وفي عام 1998 اندلعت الحرب في كوسوفو، وبعد عشر سنين، قامت روسيا بمهاجمة جورجيا. وبدأت حرب أوكرانيا بالطبع في 2014 عندما احتلت روسيا القرم وأثارت صراعا انفصاليا في إقليم الدونباس.

ومع ذلك، وبرغم المشاركة المستمرة في مهمة الناتو بكوسوفو، بقيت ألمانيا ترى في هذه الحروب سمتي "الأخرى" و"المكان الآخر". البلقان؟ هي جغرافيًّا في أوروبا ولا شك، لكنها متأخرة عن الازدهار والاستقرار اللذين ينعم بهما قلب أوروبا الفرانكوألماني. وحروب بوتين في القوقاز وأوكرانيا؟ إن هي إلا جزء من الفوضى ما بعد السوفييتية لا شأن لنا بها. وحينما كانت ألمانيا تمضي إلى الحرب ـ في أفغانستان على سبيل المثال ـ كان ذلك بسبب إحساس بالواجب أو التضامن مع حلفائنا، وليس لأن للحرب تأثيرا علينا.

وعلى مدار السنين، تحول إيمان ألمانيا بعالم ما بعد العنف إلى غطرسة، وضعف. تحدثت ألمانيا عن مصالحة مع روسيا، مغمضة العينين عن عدوان الكريملين، مستندة إلى المال الذي ادخرته من جراء تقليص الإنفاق العسكري والاعتياد على الغاز الروسي الرخيص. وتلك كانت حالتنا الذهنية حينما استيقظنا في صباح الرابع والعشرين من فبراير لنجد ما لا يمكن تخيله ـ أي تقدم القوات الروسية إلى كييف مسبوقة بقصف القنابل ـ وقد بات واقعا.

تغير على إثر ذلك كل شيء. ففي ديسمبر من العام الماضي، وبينما كانت قوات بوتين تحتشد بالفعل على حدود أوكرانيا بالآلاف، كان المستشار شولتس لم يزل يدافع عن نورد ستريم 2، وهو مشروع خط أنابيب كان من شأنه أن يجلب المزيد من الغاز الروسي إلى سواحل ألمانيا. وقبل أسابيع من بداية الحرب، اشتهرت فضيحة وعد ألمانيا لأوكرانيا بخمسة آلاف خوذة. غير أن الإنكار تنحى مفسحا المجال للعمل المستعر بعد الغزو، إذ ازدادت ألمانيا جرأة في مقاومتها لروسيا وحاولت أن تقي مواطنيها عواقب ذلك.

ووسط الفوضى، أخذت قناعات سياسية راسخة تتوارى، ولم يكن أقل أسباب تواريها سياسيون من جيلي: وظهرت منفعة النشأة في أزمنة ما بعد الأيديولوجية. فأعلن لارس كلاينجبيل رئيس حزب اليمقراطيين الاشتراكيين "سياسة جديدة" تتخلى عن التقارب القائم منذ عقود بين الحزب وروسيا. ووافق روبرت هابيك وزير الاقتصاد وشريك رئاسة حزب الخضر على الاستمرار في تشغيل المحطات النووية وإعادة العمل بمحطات الفحم بل وساعد على التوصل إلى صفقة مع قطر من أجل الغاز المسال. ونبذ الليبراليون من جانبهم إيمانهم شبه الديني بالميزانيات المضبوطة من أجل تمويل الإنفاق العسكري وتقليل تكاليف الطاقة المتزايدة.

تحولت الخريطة السياسية الذهنية. واللافت للنظر أن المستشار شولتس قاد جهود قبول ترشيح أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا للاتحاد الأوربي وسعى إلى روابط جديدة بالبلقان، أي البلاد التي رأتها ألمانيا طوال عقود ضمن فئة "الأخرى". كما بات خطاب المستشار شولتس أكثر احتوائية. وانتقل من "لا يجب أن ينتصر بوتين في حربه" في مايو إلى "سوف نساند أوكرانيا مهما استغرق الأمر" في يونيو. ثم في ديسمبر ظهرت "نحن" لتحتوي أوكرانيا وألمانيا وأوربا بوصفها جميعا خصوم روسيا. وقال في خطابه الأخير أمام البرلمان لهذا العام إن بوتين أخطأ "بشأن شجاعة الأوكرانيين، وبشأن أوربا، وبشأننا". فبعد عشر شهور من غزو روسيا أصبح "المكان الآخر" هنا.

ما يصعب القطع به هو إن كانت الخريطة الذهنية للمواطنين الألمان قد تحولت بالقدر نفسه. لقد كان رد فعل كثيرين عند الصدمة الأولى هو التضامن الهائل. استقبل آلاف منهم لاجئين أوكرانيين أو ساعدوا أوكرانيا بطريقة أخرى. وإجمالا، لا يزال أكثر من نصف الألمان يدعمون إمداد أوكرانيا بالسلاح. فضلا عن أن الحكومة الألمانية تمكنت من تخفيف آثار التضحم وارتفاع تكلفة الطاقة. وبرغم القبض على جماعة من المتطرفين اليمينيين تطرفت في فترة الوباء لا في فترة الحرب وتآمرت على الإطاحة بالحكومة، فإن شتاء السخط والغضب الشعبي الذي تخوف البعض منه لم يتحقق. والبلد إجمالا يتكيف مع الواقع الجديد.

لقد قال المؤرخ كارل شلوجل مرة إن ألمانيا في العقود الأخيرة بات "مقاومة للمفاجآت". ولكنها لم تعد كذلك. فالوضع الطبيعي الآن في ألمانيا، مثلما ظل تصوره لفترة طويلا، غير محدد بعد. ونعم، هذه اللحظة الفارقة ـ Zeitenwende تسايتنفندي ـ جديرة باسمها.

• آنا شوربيري محررة وكاتبة في أسبوعية دي تسايت الألمانية تكتب بانتظام في الشؤون السياسية والاجتماعية والثقافية في ألمانيا.

** "خدمة نيويورك تايمز" ترجمة خاصة بجريدة عمان